السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

ثقافةٌ عالِيةُ الكَعْب

المصدر: "النهار"
باسم عون
ثقافةٌ عالِيةُ الكَعْب
ثقافةٌ عالِيةُ الكَعْب
A+ A-

لم يَنَمِ الأستاذ عماد تلك الليلة إلّا لماماً. كيف لا وقد تمّ اللجوء أخيراً إلى ثقافته! تلك الثقافة التي لم تحمل إليه حتّى اليوم سوى ملاحظاتٍ مبطّنةٍ ملؤها الاستهجان والاستخفاف واللامبالاة. وتلك الصّورة النمطيَّة للمثقّف، أو"دودة الكتب" -كما بات يُقال- لم تعُدْ لِتُبْهِرَ أحداً في زمن التكنولوجيا والأجهزة الذّكيّةِ في عصرِ النّاس هذا.

غيرَ أنَّ كلّ هذا قد يصبحُ من الماضي إذا ما نجح الأستاذ في مهمَّتهِ الجديدة. فقد أوكَلت إليه زوجته أمرًا خطيرَ الشأن. إذ طلبت منه تحرير كلمةٍ لمناسبة حفل التَّخرُّج في المدرسة، في ختام العام الدراسي. ولا بدَّ لتلك الكلمة التي ستلقيها زوجته -طبعًا بصفتها رئيسة رابطة الأهل- أن يكون لها الصَّدى المطلوب وسط المئات من التلامذة وأوليائهم.

وبالرغم من خطورة الموقف، تهلَّلَ صاحبُنا كَإليصابات العاقر عندما بُشِّرَت بالحبلِ بيوحنّا، وراح يُعمِلُ الفكرَ في ما سيخطّه قلمه في هذا المجال.

وبعدما راح الأولاد يغطّون في نومٍ عميق، تسلَّلت الزّوجة إلى فراشها الدافئ تاركةً فيلسوفَها يُدبِّجُ من السّطور ما سوف يميطُ اللِّثام –بلا شكّ– عن عبقرّيةٍ طالما تمَّ تجاهُلُها.

تلك الماكرة... تطلب منه النجدةَ الآن! هي التي طالما نهَرَتْهُ أثناء مطالعاته الليليّة في السّرير قائلةً: "بدّي أعرف لشو كلّ هالقرايي؟ للدّود؟ رَيْحو هالدّماغ وارتاح." وهي تقصد طبعاً أنّ الثقافة لا توَرَّثُ؛ وعند الموت سيأتي الدودُ على كلِّ شيء. طريقةٌ مبتكرة للتعبير عن الانزعاج من ضوء المنضدة الصغير، ذلك الضوء الذي ما برحَ سَميرَ القارئ في اللّيالي الدّوامِس. حسنٌ، سَنرى...

دقّت الساعة الحادية عشرة والورقة البيضاء أمامه لمّا تزل بيضاء. لكأنَّ حدائقَ أفكاره قد أجدبَتْ، أو أنَّ معينَهُ المُعجَميّ قد نَضُبَ هو الآخر! هو الذي لا تُعوِزُهُ الطَّلاقة في الكتابة على ما يزعمُ أصدقاؤُهُ على موقع الفايسبوك. فما بالهُ الآن يعتصِرُ فكرَه ويستنزلُ البيانَ، وما من مُجيب؟! أَتُراهم يكذبون؟؟

تناول علبة تبغٍ كانت على الطاولة، إذ غالباً ما كان يرى المفكِّرين في مقاهي شارع الحمرا يدخّنون إِبّان جلساتهم الأدبيّة والفكريّة مع مريديهم، مما يحيطهم بهالةٍ من الغموض البنّاء. سحب سيكارةً، تشمّمها، وقبل أن يُشعلها توقّف فجأةً، محاولاً إخفاء ضحكةٍ مكتومةٍ... لقد تذكَّر أنَّه لا يدخّنُ البتّة!

وبعدما خذلتْه شياطين وادي عبقَر، التفتَ إلى تلك الصّورة المقدَّسة على الحائط. وللمرة الثانية تذكّر إليصابات التي "نزع عنها الرّب عار عُقْمِها من بين الناس". أَوَلَيسَ للكلمات عقمُها أيضاً؟ بلع ريقه... وتمتم قائلاً: "كُنْ أنتَ مؤمناً أيضاً يا عماد، ولا تكُن غيرَ مؤمِن".

...وأخيراً، حُلَّت عقدة لسان زكريّا. وراح الأستاذ يكتب:

" ودارتِ الأرض دورتها حول الشمس... وها هي منصّة الشرفِ تعجّ من جديد بالمحاصيل الجمّة المباركة من ثمارِ علمٍ وتربيةٍ وثقافة... فيا لطيبها من ثمار! وأهلاً وسهلاً بكم...".

-"لا بأس بالمقدّمة ، فلنتابع". قال الأستاذ مقرِّظاً نفسه.

..."يطيب لنا اليوم، كلجنةٍ لأولياء الطلّاب في مدرسة (س.ل)، أن نستلهمَ أمجاداً لنا -نحن اللبنانيين- في العلمِ والمعرفةِ، عصيّة على النكران، باقية ً ما بقي يراعٌ يخط الحقَّ سطوراً في صدر كتاب!".

-" نعم. جميلٌ! لا فُضَّ فوكَ أستاذ عماد". 

وهنا انتفش ريش الأستاذ، وذهبت به المغالاة كلَّ مذهب، فجعلَ معهدَ الحقوق في بيروت "أمِّ الشرائع" ومدرسةَ "زوجته" صُنوَيْن. وما الأخيرة إلّا سليلة الأولى ووريثتها علماً وفكراً وثقافةً. إلى آخر تلك المعزوفة التي تتغنّى وتعبّ من أمجاد الماضي الغابر.

إلى أن شاء الأستاذ أن يبثَّ روح العَظَمة في الطّلاب المتخرّجين، الذين لو صدّقوا كلمةً واحدة مما قيل فيهم لَضاهَوا ضفدع "لا فونتين"، ولَغدا ثورُ المعرفة على قاب قوسين منهم. فاستلّ لِخاتِمةِ خطابِه من أقوال الإمام عليّ (ع) ذلك البيت الخالد الذي قيلَ في طاقات الإنسان الكامنة:

"وتدّعي أنك جِرْمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالمُ الأكبر!".

وما إن وضع النقطة النهائيَّة لخطابهِ الجَلل حتّى انتشى زَهْواً ممّا صنعت يداه! فخال نفسه في الصفِّ الأمامي بين الحضور، فيما راحت القاعة تضجّ بالتصفيق المحموم. وإذ ارتسمت على شفتيه ابتسامة ماكرة، وضع القلم جانباً، وقام، قُبَيلَ الفجر، فدَلفَ إلى غرفته حيث كانت زوجته تغطَ في نوم لذيذ.

وجاء يومُ الاحتفال. الزوجة في كامل أناقتها، لكأنّها استغرقت من الوقت في تبرّجها عشرة أضعاف ما قاساه المسكين في ليلته البيضاء تلك. عِلاوةً على تصفيف شعرٍ يسحرُ الألباب؛ زاده رونقاً فستانٌ أسودُ أنيق، تخاله قد وصل للتّو من أحدث "بوتيكات" باريس للموضة، ما زاد الجمال في الكائن اللطيف جمالاً.

الخرّيجون على المنصّة يرفلون بأثوابِ النّجاح والفخر. وفي الصّف الأمامي جلس وجهاء البلدة مع الأمّ الرئيسة تحفُّ بها بعض الراهبات، يليهم الجِهاز التّعليميّ صاحب الفضل الأكبر في هذا الحفل، فيما احتّل الأهالي كلَّ أرجاء القاعة. فكان التنظيم مُتقَناً. ولا عجب، فالمدرسة بإدارة الراهبات الفاضلات.

في البدء، ألقت الأمّ الرَّئيسة كلمتها، فهنّأت وشكرَت ومجّدتْ مدرستَها "سليلةَ معهد الحقوق"، مثنيةً على مهارةِ الجهاز التّعليميّ. وختمتها بصادقِ الوصايا للمتخرّجين الجدد. ثمّ تلتها كلمة رابطة المعلّمين التي كالَت المديح لإدارة المدرسة بشخص الأمّ الرَّئيسة، وأثنت على جهود الطّلاب الّذينَ سيكون لهم شأنٌ عظيمٌ في استنهاض الوطن من كبوته... وأخيراً جاء دور لجنة الأهل.

ولَئِن لوحِظَ بعضُ الاضطراب والرَّعشة في السّاقين النّحيلتين، فإنَّ رئيسة الّلجنة ما لبثت أن تماسكت إثر اعتلائها المنصّة، وراحت الكلمات تنسابُ جَليّة ً بليغةً أنيقةً، لَكأنَّ صاحبتَها قد نشأت بين أبناءِ "البساتنة" ممّن شادوا أُسُسَ مملكة الضّاد في هذا الوطن!

ومن نافلِ القول إنَّ الكلمة قد نالت استِحساناً كبيراً، بدليلِ مقاطعتها عدّة مرّات بالتصفيق الحارّ. وما كادت الخطيبة ترمي بقنبلة البيت الأخير حتى انفجرت القاعة بالتصفيق المتواصل. وإذا بِشاغلي الصّفِّ الأماميّ قد انتصبوا وقوفًا يريدون مصافحةَ السّيِّدة الجميلة، مُدْلين كلُّ واحدٍ بدلوِهِ. فهذا رئيس البلديّة يشيدُ بالخطاب مثنياً على الخطّيبة المفوّهة، فيما تدحرجَ المختار ابن السبعين مسلّماً يهزّ الرأس استحساناً مبدياً كامل الإعجاب بالخطاب وبصاحبتِه. أمّا الأبونا فقطع مطوّلات المختار ليشكر باسم الرَّعيَّة صاحبة الكلمة الحلوة الصادقة المعبّرة!

ولا تَسَل عن سعادة الأستاذ عماد بِما حَظِيَتْ به زوجته من النّجاح، سعادة تفوق سعادة "وجهاء" الصّف الأمامي مجتمعين؛ ذاك أنَّه قد ردّ أخيراً للثقافة اعتبارها بعد طول إنْكار.

ومرّت الأيّام... ولم يعُد ضوء القراءَة مزعجاً كما كان في السابق. ولكنَّ الأستاذ عماد لم تُكْتَب لَهُ الرّاحة... فماذا بعد؟

شارفَتِ المهلةُ القانونيّة للجْنة الأهل على نهايتها، وعلى الطّريقة اللبنانيّة في الحفاظ على ما تمَّ تحقيقه، اقترحت الزوجة على "فيلسوفِها" تقديم ترشيحِه لعضويّة اللّجنةِ العتيدة، ولكنه تمنّع. فألحّت، فلم يُجِبْ. ثمَّ أصَرَّت، فطلبَ مهلةً للتّفكير.

يقول المثلُ الشعبيُّ: "جَدْيٌ لعِب بعقلِ تَيْس!" نعم، هذا ما جرى للأستاذ عماد. ولكن جرَت طمْأنتُه بأنَّه لَن يحملَ أيَّةِ أعباءٍ داخل اللّجنة، ما خلا إعدادَ بعض الكلمات في المناسبات الاحتفاليّة.

الأيّام تتراكض... وها هي "الشمس قد دارت دورتها حول الأرض من جديد"، واقترب موعد حفل التخرُّج للعام الحالي. ولكن ما هَمْ. ها هو الخبز، وها هو الخبّاز، وسيأكله كلّه بإذن الله.

وراح الأستاذ يصوغُ خطابَه، فيبنيهِ حجراً حجراً، مستلهماً جهابِذَة اللّغة، مستوحياً فذْلكاتِ النحويّين، مُستنزِلاً آيات أرباب البيان، متسربلاً بمطارفِ البلاغةِ، ضارباً في قواميسِ المفردات والمعاني. فجاء خطابه كاملاً جامعاً مانعاً، أين منه خطاب السَّنةِ الماضية! فليس ذاك إلّا غَيْضًا من فَيْضِ هذا.

التحضيرات نفُسها، والإتقان التنظيمي ذاته. والحضور كثيفٌ والخرّيجون بالعشرات.

تتالتِ الكلمات. ولكنَّ ما صدمَ أستاذَنا، أنَّ الأمَّ الرّئيسة لم تتورَّع عن إلقاء كلمتها بالعاميّة! لعلَّهُ تحبُّباً أو تقرُّباً من جمهور الأهالي. أمّا ما ليسَ مفهوماً ولا مقبولاً أْن تُلقى كلمةُ رابطة الأستاذة بالُّلغة العاميّة أيضاً! وفي صرحٍ طالما افتخرَ بمستواهُ التعليميّ واللغويّ. فماذا سيُترَكُ للطّلاب إذاً ؟ وهم أصلاً من روّاد لغة التّخاطب الإلكتروني أو "التشاتينغ"، وهو "كرشوني" القرن الواحد والعشرين!

مخفيًا خيبته، امتَشقَ الأستاذ خطابَه، واعتلى المنصَّة:

" أيّها الحفلُ الكريم، تحيّة طيّبة. أما بَعد،

سنةٌ مَضتْ وتجاربُ خِيضَتْ وعقباتٌ ذُلِّلَتْ، وإذا بنا نلتقي اليوم من جديدٍ على بيدرِ مدرستنا المعطاء. فمَرحى بِشهيّات الثّمار، وهنيئاً لنا بهذه الوَفْرة الوافرة من الغِلال المباركة. فنِعمَ الزّرعُ، ونعمَ الحصادُ، وسَلِمَتْ يدُ الزّارع"...

ولكن... لا شيء في القاعة يَشي بالانتباه! ونظرَ إلى الجمهور ليقابلَ التصفيق المُنتظَر ببسمةِ الظَّفر، ولكن لا شيء! لا تصفيق ولا من يصّفقون! غَصَّ بِريقه، وتابع الأستاذ خطبتَه البَتْراء. فصالَ وجالَ بين أمجادٍ غابرة وأحلام واعدة واعظاً، راجياً، متأمِّلاً. ولكن لا شيء أيضاً!

في الصَّف الأماميّ مُختار "السّنة الماضية" يتجاذبُ مع رئيس البلدية أطراف حديثٍ ذي شأن... أمّا الخوري، فما انفكّ يوزِّع ابتساماته يميناً وشمالاً، متلاعباً بأعصاب خوريَّته الدّهريّة اللّاطيةِ بِقربه. أمّا الأمّ الرّئِيسة فيبدو أنَّ أخبار الرَّهبنةِ "الطارئة" قد تزاحمتْ كلُّها على جهازِها المَحْمول، إلّا أنّها كانت -والحقُّ يقال- تَمُنُّ على الخطّيب، بين الحين والآخر، ببعضِ التفاتة.

أُسقِطَ في يدِ الأستاذ، فآلَمَهُ ما رآهُ من اللامبالاة من قِبَل الجميع: طلّابًا ومعلمينَ وأهالٍ. إِذ حُصِرَ الاهتمام بالأزياء والموسيقى والأضواء والتقاط عشرات الصور. أمّا المُحْتَفى بِهِم فقد استوَوْا همُ الآخرون على كراسيهم يوزِّعون ابتساماتٍ بلهاءَ هنا وهنالك، لا شيء يشغَلُهُم سوى تلك القبعاتِ الّتي لا ينفكّون يُصْلِحون من شأنها فوق رؤوسهم. وأيقَنَ صاحبُنا بأنَّ "شهيّات الثمار" لا بدَّ لها من أن تلتحِقَ هي أيضاً بقافلةِ الأُمِّيّينَ من حَمَلَةِ الشّهادات الرّنّانة.

وِبِشقِّ النَّفْسِ وصلَ إلى الخاتمة، تلك الخاتِمة التي كانت أشبهَ بشهادةِ الزّور! إذ كَيف لهُ أَن يشَبِّهَ مدرستَهُ وِخرّيجيها بِوَكْرِ النُّسور؟! على ما جاءَ في شعرِ الأخطلِ الصّغير إذْ قال:

" وَكْرَ النُّسورِ قُدِّستَ وَكْرا كلَّ يَومٍ تُهدي إلى الأفْقِ نَسْرا"

وكان تصفيقٌ من باب الّلياقَةِ ليسَ إِلاّ. وعادَ الأستاذُ إلى مكانه بين الحضور، لا سلامٌ، ولا كلامٌ، ولا مصافحة. وبينما اقترب مِنّي -أنا صديقه- بادرني بالسؤال :

- ما الخَطْبُ؟ ألم تَكُنِ الخِطبةُ واضحة؟ ولِمَ كل هذا الفُتور؟

- كانت جيّدة يا صديقي، إنّما كان ينقُصُها بعضُ الأمور.

- بعض الأمور؟ مثل ماذا؟ قُلْ.

فأجبته للحال:

- ربّما كان عليك أن تصبِغَ شعرَكَ، وتضعَ قليلًا من أحمرِ الشِّفاه، وتنتفَ شعرَ حاجبيكَ وربّما رجليكَ أيضاَ، ثمَّ تختالَ يا صديقي مُنتعِلًا حذاءً عاليَ الكَعْب! هذا ما كان ينقصُ خطابَك يا عزيزي.

فانفَجرَ صديقي الأُستاذُ ضاحكاً وهو يردّدُ: "معَها حقّ... معَها حقْ... كلّ هالقرايي للدّود... معها حق... روح خِدني نغَيِّر جَوْ... شو رأيك بِـ"المعاملتين"؟

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم