الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

كورونا من منظور الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري: الفيروس في كونه استعارة

المصدر: "النهار"
إيمان الرياحي
كورونا من منظور الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري: الفيروس في كونه استعارة
كورونا من منظور الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري: الفيروس في كونه استعارة
A+ A-

أصدر الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشال أونفري أخيراً كتابه "عظمة شعب صغير" عن "دار ألبان ميشال للنشر". ينشغل المُؤلّف بحركة أصحاب السترات الصفر بفرنسا، التي شرعت منذ أيار 2018 في احتجاجات متواصلة ضدّ غلاء المعيشة، والتي دعت إلى تخفيض قيمة الضرائب على الوقود ورفع الحد الأدنى من الأجور. يدافع الفيلسوف عن أصحاب السترات الصفر، مركّزاً على حجم معاناتهم، فينعتهم بـ"الشعب العظيم". يتصوّر أنّ هذه الفئة الاجتماعية المنهكة مادياً، والمهمّشة والمقزّمة،  قادرة على أن تقلب الموازين لمصحلتها. إنّ نضالها في تقديره، هو ما يصنع عظمة الشعب بحق.

يستعمل أونفري في مؤلفاته الأخيرة استعارات "الصغير" و"الكبير" بكثافة، من ذلك استعارة "الجدة" مثلا في كتابه "تفسير ما بعد الفوضوية لجدتي"... وكانت غايته من مثل هكذا استعارات، هو نقد أنماط التفكير والإيديولوجيات الكلاسيكية المتعارضة أي اليمين واليسار، إلى الليبراليين والمعادين لليبرالية، التقدميين والقائلين بمبدأ السيادة الوطنية. لا بد من تجاوز كل هذه الأزواج المفهومية واختزالها في زوج مفهومي عام هو "أصحاب السلطة" و"من تمارس عليهم هذه السلطة". لم تعد الثورة بمعناها الماركسي أيضا أفقاً وحيداً للنضال اليساري، لا بل إنّها لن تفلح في اجتثاث الأنظمة السياسية الفاسدة على نحو عنيف ومباغت.

يبدو من الضروريّ، وفق أونفري، صياغة تصوّرات جديدة تخرجنا من بوتقة الثنائيّات الماركسيّة الكلاسيكيّة، على غرار المفهومين الشهيرين "العمّال" و"البرجوازية". لأنّ تأزّم واقعنا الإنساني الراهن لا يمكن حصره في إطار صراع طبقي بين طبقة كادحة وطبقة مالكة لوسائل الإنتاج الفلاحية أو الصناعية، بل هو أعمّ من ذلك بكثير. لا بد أن يواجه الفكر النقدي كل أشكال التسلط ضدّ الفئات الصغيرة المضطهدة. هذه الأخيرة تشمل العاملين والعاطلين عن العمل، والمهاجرين وكل مَن يقع تهميشه سياسياً أو اجتماعياً بوصفه كائناً من درجة ثانية. في هذا السياق، يدعو أونفري الأدباء والمبدعين من شتّى المجالات الفنية للاهتمام بموضوع البطالة وتكثيف الكتابة الأدبية حول مشاكل الهجرة.

يمكن أن يكون النضال أفقياً ومتدرجاً وقائما على شكل من أشكال التعاون المرن داخل كل فئة صغيرة مضطهدة، وبين مجموع الفئات المتضرّرة. إنّ المقاومة بهذا المعنى، هي المراوحة بين الجهد الفردي المبذول والجهود الجماعيّة المتضافرة السّاعية إلى مواجهة الاستبداد. يقترح الفيلسوف أن يتصدى الفرد إلى كل أشكال التسلّط بدءاً بالتسلّط في معناه العائلي البسيط بين الرجل والمرأة مثلاً، مروراً بالتسلّط المُمارس في العمل من قِبل رئيسه، وصولا إلى التسلّط القائم على هيمنة المركز الناتج عن التفاوت الجهوي بين المدن الكبرى والأرياف. مع الإشارة إلى أنّ هذا التفاوت، ينتج أيضا عن التحيّل والزبونيّة داخل المؤسسات المعرفية والتجارية والجبائيّة وغيرها. أمّا على المستوى الجماعي، فيكون التعاون بين "الفئات القاعدية" المهمشة كفيلاً بإعادة الاعتبار لها، حيث يرفعها التنسيق بين الجهود أطرافها من مستوى "فئات القاع البائسة" إلى القمّة، أي إلى مستوى قوّة ظاهرة ومؤثّرة.

يستعمل الفيلسوف الحقل الدلالي لـ"الشيخوخة" في نقد أشكال الهيمنة القديمة المترسّخة في المجتمع، والمسؤولة عن تدهوره وارتكاسه، ويحمّل بعض الإعلام مسؤولية دعم الأفكار الرجعيّة عبر تقديم التوجهات السياسيّة ذاتها وتطعيمها بشيء من مظاهر التجديد. لكن تكمن الحكمة الحقيقية في الإيمان بالصيرورة الطبيعية للأشياء وفي قبول التغيير. أمّا ادّعاء استشراف المستقبل من الطبقات السياسية البائدة، فلا يمكن أن يكون سوى ضرب من "التصابي"، يقول أونفري في أحد حواراته الإذاعية عبر "راديو أوروبا 1:" يقلب الإعلام الخصوصيات الفطرية للبشر وينشر "التصابي" داخل المجتمع، و"ها أنا أرى شيوخاً بملابس قصيرة وبأوشام عدة على أجسامهم يلعبون ويتزحلقون بالتروتينات". 

أمّا اليوم وقد استهدفت الكورونا كوفي 19كل البشر في العالم لا سيّما المسنّين منهم، فإننا نطرح أكثر من سؤال حول حقيقة الكارثة العالمية،لماذا يطيح الفيروس أساسا بطاعني السن الذين ينتمون إلى فئة المتقاعدين؟ وهي فئة تشكّل-في تقدير بعض خبراء الاقتصاد- مجموعة غير نشيطة وتمثّل عبئا على مؤسّسات الرعاية الاجتماعيّة والصحيّة وحتّى على المؤّسسات الماليّة العالميّة.

ألا يدعونا ذلك إلى التفكير إنسانيّا في مستحقات المسنين في اعتبارهم جماعة مستهدفة من الطبيعة أو من الاقتصاد؟ فإن كان نقد الاتّجاه الفلسفي التحرّري للأجداد مسالماً وفكريّا وإصلاحيّاً بالأساس، فإنّ نقدهم في السياق الاقتصادي يرتبط بتبرّم مادّي بحت، ونحن لا نقدّر عواقبه، إذ تتراجع مدّخرات صناديق صرف المعاشات بصفة ملحوظة في بلدان عدة في العالم كفرنسا واسبانيا وإيطاليا، ويتفاقم العجز المالي فيها أكثر فأكثر، ويزداد تعقيدا في ظلّ واقع يتراجع فيه عدد الأيادي النشيطة وتطول فيه أعمار المتقاعدين. تسعى فرنسا مثلا منذ سنوات، إلى تخطّي مشاكل صرف الجرايات بإرساء تعديلات وإصلاحات على نظام التقاعد، لكن من دون جدوى. إذ قامت حشود شعبية بالتظاهر ضدّ التعديل الأخير الذي يدمج 42 نظاماً معمولاً به في التقاعد في نظام واحد جديد. اعتبر المتظاهرون هذا التحوير غير منصف ومُخلّ بمنظومة التضامن الاجتماعي، ودعوا إلى مراجعته. كما ندّدوا بمحاولات تمرير إجراءات تخدم الليبرالية الجديدة ولا تكون في مصلحة المواطنين. وقد شاركت ضدّ هذا القرار الحكومي المتّخذ، أطراف نقابية وعمّالية، بخاصة أصحاب السترات الصفر والبرتقالية، ومتقاعدون وأحزاب من اليسار ومجموعات من اليمين الفوضوي ومثقفون... وشلّ هذا الحراك الاحتجاجي حركة نقل الأرتال والميترو فيها. وواصلت مجموعات من المتظاهرين احتجاجها حتى بعد ظهور فيروس كورونا، حيث رفع المحتجون شعار "مع الكورونا فيروس تصل حرارتنا إلى 49.3"، بمعنى أنّ الوباء العالمي لن يحط من عزائمهم، وأنّهم سيواصلون تظاهراتهم ضدّ الفصل 49.3 من القانون الفرنسي.

أمّا أونفري، فيتواتر حضوره في الإعلام الفرنسي هذه الأيام، ونراه ساخرا وغاضبا وناقدا لسياسة التعامل مع أزمة الفيروس. سيغيّر تفشّي هذا الوباء -في تقديره- معطيات جيوسياسية عدة ويسنّ قانونا جديداً... لذلك لا يستعمل الفيلسوف صوره المجازية المعتادة، بل يُبدلها باستعارة مستجدّة هي استعارة "كورونا". يصرّح في هذا الصدد: "لقد كنت، منذ البدء، على حق حين قلت إنّ الفيروس ليس مجرّد وباء طبيّ بل هو أيضاً استعارة. إذا أردت أن أعبر عن نفسي الآن كصحافي، وبالتالي كسياسي، والعكس بالعكس، سأقول: "البقية تأتي".

بين قائل بتهاوي العولمة على إثر فقدان العالم السيطرة على كارثة كورونا، وبين مَن يرى العولمة نفسها متحكّمة في حرب فيروسية جديدة، نتصوّر أنّ اتضاح الصورة يتطلّب مهلة زمنية موضوعية وواقعية لفهم المسبّبات والعواقب السياسية والاقتصاديّة المترتّبة عن الوباء.

باحثة متخصصة في فلسفة العلوم الذهنية 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم