الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

الرسّام الجميل محمد شمس الدين لم يعد قادرًا على استنشاق الأوكسيجين

المصدر: "النهار"
محمد شرف
الرسّام الجميل محمد شمس الدين لم يعد قادرًا على استنشاق الأوكسيجين
الرسّام الجميل محمد شمس الدين لم يعد قادرًا على استنشاق الأوكسيجين
A+ A-

يرحل الرسّام محمد شمس الدين، باكراً، في الزمن الصعب. وإذ يُخيل إلينا أن هذا الوطن لم يعرف أزمنة سهلة، فإن ما نمر به الآن يتخطّى الموازين التي كنا نقيس على أساسها درجات الصعوبة ووقعها. يأتي خبر رحيل محمد شمس الدين كي يزيد نفوسنا كدراً، هي التي تبحث عن ومضة ضوء في ليل السياسة الحالك، والوضع الإقتصادي المتهالك، وجحيم الأوبئة. لم يكن في مقدورنا إلاّ أن نراكم في ذهننا هذه الأشياء كلّها التي حوّلت حياتنا أخيلة مبهمة، إلى أن جاء غياب محمد شمس الدين كي يكمل تلك الحلقة السوداء التي لا نرى ثقباً نتسلل منه خارج أشواكها.

إذا كان ما يبعث على الأسف والحزن المخيّمين على النفس، في ما يختص بالواقعة، فهو ذاك المزيج بين العلاقة الشخصيّة التي ربطتنا بالراحل، والصفات التي كان يتحلّى بها، الموزّعة بين طيبةٍ لا تشوبها شائبة، وعلاقةٍ بالآخر تجهل لغة المصالح الضيّقة، وثقافةٍ فنيّةٍ لائقة.

خاصيات عديدة ميّزت محمد شمس الدين عن سواه، لكونه لم يكن يلتزم قواعد مكتوبة، منصوصًا عليها في كتب "الإتيكت"، أكان في الحياة أم في الفن. "شمس"، كما كان يدعوه أصدقاؤه، كان حالة خارجة عن المألوف. الجديّة والعبثية جتمعتا في شخصه، وتصارعتا بخفة، أو بشيء من الضجيج والمزاح أحياناً، بحيث تكون الغلبة لإحداهما أو للأخرى، بحسب ما يقتضيه الظرف والمحيط.

هكذا، كانت علاقته بالتشكيل مدار جدال بينه وبين نفسه من جهة، وبينه وبين المحيط من جهة أخرى، ولم تكن على الكثير من الثبات إلاّ حين يخلو إلى نفسه، بعد أن يكون محاطاً بالإصدقاء. يُخيّل إلينا أن شمس لم يكن قادراً على العيش من دون أن يكون محاطاً بخليل، وربما من الأجدى أن يكون محاطاً بسحر أنثى، صديقة أكانت، أم خليلة، أم عشيقة، يبدو أنه لم ينفك يبحث عنها. "قلبي مريض... فاليوم فقدت عشقي تحت الشجرة التي أحب"، كان يقول. في معرضه الأخير الذي شاهدناه، بحسب ما نعلم، ولا ندري إن كان قد أنتج من بعده أعمالاً أخرى، أرفق رسومه بكتابات: شعر وأفكار وهواجس من كل نوع، تشي جميعها بإختلاجات نفس مضطربة. لم يكن قادراً، في أي حال، على العيش خارج هذا الإضطراب، الذي كان يهوى معالجته بكأس وبلفافة تبغ، وبجلسة عامرة قد تمتد إلى أن يغيب الوعي الوجودي، مفسحاً الدرب أمام ضرب من سوريالية، قد نراها عملاً تشكيلياً في اليوم التالي، إذا ما تسرّب الصحو إلى مفاصله، ولم ترتجف يده أمام القماش أو الورق.

شغفه بالرسم كان يمكن ملاحظته في غير مناسبة وموقف، وإن كان هذا الرسم منفلتاً من قيود أكاديمية، إلاّ إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وقد كان قادراً على الأخذ بهذا التحدّي. أحبّ الخط وتلاعب به. كان يعمل على خلق البقعة التشكيلية من طريق مراكمة هذا الخط، أو قد يجعله منفرداً من أجل تشييد مفاصل الشكل البشري. وإذا كنا قد أشرنا أعلاه إلى العبثية، فهي لم تغب عن هذه الرسوم، من دون أن تُفقدها الوزن الشعوري، بل كانت عنصراً مساعداً، وضرورياً ربما. ولا يمكن أن ننسى مائياته التي تنم عن شفافية تعتبر شرطاً واجباً لهذه التقنية، التي لا يحسن امتلاكها الكثيرون. كما لن نهمل أيضاً محاولاته في مجال التجهيز التي اتخذت طابعاً شخصياً بكل ما في الكلمة من معنى، إذ كان هو نفسه، أحياناً، جزءًا من العملية، وبطلها الوحيد.

"لم أعد قادراً على استنشاق الأوكسجين"، كتب محمد حين كان وضعه الصحي لائقاً، إلى حد ما. كانت حالة شعورية، لكنها انقلبت عطباً بيولوجياً، على ما نعتقد، وإن كان خافتاً، لكن كان ينذر بما لا يوحي الطمأنينة. "نابالم الله أقوى من الخردل... وأرق من الموت السريع". لقد خانك قلبك يا شمس. كان موتك سريعا، وخلّف لدينا الكثير من الألم.



الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم