الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

هنا قندهار... الرقة سابقاً

المصدر: "الملحق" -"النهار"
ابرهيم الزيدي
A+ A-

لم تعد المسافة بين المدن السورية محكومة بالقانون الرياضي، حيث تساوي، السرعة ضرب الزمن. أصبحت محكومة بدرجة الخوف واللهفة وعدد الحواجز، ومحكومة بهواجس متناقضة ومتداخلة في آن واحد. الرقة التي كان اسمها أقرب إلى الماء، لم تعد تهتم لفارق التوقيت بين المفهوم ومدلوله. الوطن إن لم يكن حلماً فهو غير جدير باسمه، وهي على ما يبدو قد أثقلتها واقعيتها، فتخاطفتها الأحلام. ولم تعد لأبنائها مشكلة مع الموت، أصبحت مشكلتهم الحقيقية مع الحياة. هذا ما جعل أحدهم يقول لي: "حين تصبح الحياة كابوساً، تصبح الحواس أدوات تعذيب". فأولاد الرقة على صلة بما لا يمكن التعايش معه.


كانت مدينة السلمية هي محطتي الأولى في الطريق إلى الرقة، لبثت هناك ما يقارب 3 ساعات، قبل أن تحضر السيارة التي ستقلنا إلى مدينة الطبقة، قبل خمسين كيلومتراً من الرقة. كنت أغدو وأروح في الشارع الوحيد الممتد أمامي. هنا مدينة بائسة، تقرأ في وجهها فوضى الملامح، الشوارع شبه خالية من المارة، لم أسمع جلجلة ضحكة الماغوط، وكأنه في صمته المريب، قرر أن يخون وطنه فعلا، وليس في عنوان كتاب.
في الطريق إلى الرقة يخطر في البال قول باتريك استراد: "قل لي ماذا تتذكر أقل لك من أنت". لكني لست في حاجة إلى باتريك ستراد ليقول لي من أنا، بعدما اختصرتني المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، بصفة لاجئ، وسلة غذائية انتظمت لمدة شهرين، ثم تقطعت بها السبل.
بعد أقل من 10 كيلومترات في اتجاه الرقة، لاح لنا الحاجز الأول. التفت إلينا السائق، وقال: يا شباب، بعد هذا الحاجز ينقطع الاتصال، من يريد أن يتصل، فليتصل الآن، ومن ثم أرجوكم اطفئوا موبايلاتكم، لأنه إذا رنّ الموبايل ونحن عند الحاجز، فلا أعرف كيف يتصرفون مع صاحب الموبايل. في تلك اللحظة بالذات، اجتاحتني رغبة عارمة بالاتصال بكل من أحب، وكأنني أريد أن أكتب وصيتي. شريط طويل من صور الأهل والأحبة والأصدقاء، استعرضته الذاكرة بلمحة بصر.
بلطافة مصطنعة قدّم السائق تحيته لمن على الحاجز، مرفقة بالدعاء لهم بالنصر، تلك اللازمة كررها السائق أمام جميع الحواجز التي مررنا بها، على اختلاف انتماءات القائمين عليها، والتي لم تنقطع طوال الطريق إلى الرقة. بعضها متباعد، وبعضها متقارب. أحياناً كانت تتناهى إلى مسامعنا أصوات، بعضها يوحي أنه صوت رصاص، وبعضها الآخر كأنه صوت قذائف مدفعية، وأحياناً بين هذين الصوتين تنطلق رشقات الدوشكا. قبل مدينة الطبقة بقليل، توقفنا هناك حيث كان ينتظرني أحد الأصدقاء، فاصطحبني بسيارة بيك آب، إلى بيته في القرية المجاورة، بعد الغداء، أحضر لي لباسا عربيا، فتنكرت بثوب و"غترة" وعقال، لدخول المدينة. كنت أعرف من خلال الأخبار ما تعرضت له مدينة الطبقة من قصف، إلا أن البون شاسع بين ما كنت أسمعه من وكالات الأنباء، وما رأيته ماثلا للعيان. مما يثير الانتباه هو قدرة الناس على التأقلم مع هامش الحياة، كأنهم يعيشون في ظلال أنفسهم. هذا لا يعني عدم وجود أناس يحدوهم الأمل بمجتمع متعاون، فثمة محاولات مساعدة وإغاثة لا تهدأ، ولا بد هنا من أن نأخذ في اعتبارنا الجهد الهائل الذي يقوم به الهلال الأحمر، فرع الطبقة، من تلقيح وإسعاف، ومساعدة الناس على تحمل آلامهم.
كانت القرى المحاذية للطريق بين الرقة والطبقة تبدو لي من نافذة السيارة كأنها تعدو إلى الخلف، فلم أستطع تبيّن ملامحها كما ينبغي، وكثيرا ما كانت سيارات الدوشكا والبيك آب التي تحمل في صندوقها الخلفي رشاشات، تلهيني عن مراقبة الطريق. دخلنا الرقة من طريق فرعي يمر بين المزارع، وبعض البيوت، من جهة الجسر القديم، ثم نزلنا، ودخلنا المدينة سيراً على الأقدام. وقفت هناك، كما تقف الكلمة بين الشفتين، يشدني إلى الوراء خوف من احتمالات، أقلها الاعتقال، وتدفعني إلى إكمال ما جئت من أجله، رغبة مجنونة بالكتابة، بإيصال صوت الرقة إلى من يهمه الأمر، بتأكيد ما هو موجود، وليس ما هو محتمل، أو متوقع، لمعرفة الكيفية التي أصبحت فيها الرقة شاهدا يوظفه جميع الأطراف في نصوص خطاباتهم. أريد أن أكتبها بكلمات حية، أنقل روح صورتها، فقد أرهقتني صورها الفوتوغرافية الميتة. قبيل كاراج البولمان بقليل رأيت مجموعة ملتحين يحملون بأيديهم رشاشات روسية، فتوقفت أمام بائع سبحات. كان يفترش الأرض، وحين اقتربوا أكثر، قرفصت أمامه، وصرت أتصفح المسابح، وأحاول فتح حديث بيني وبينه. عرفت أنه كردي من أصل تركي، اسمه محمود دياربكرلي، فاستنصحته بشراء سبحة، فنصحني بنوع سمّاه لي "اليسر" وفرك بين راحتيه السبحة، ليثبت لي أنها عطرة، وفعلا فاحت منها رائحة زكية، فابتعتها منه، وغادرته في اتجاه قلب المدينة. كان الطريق إلى هناك يمر بالقرب من مبنى المحافظة، حيث مقر قيادة "دولة الشام والعراق الإسلامية" (داعش)، فاستوقفت سيارة أجرة، وعبرت إلى داخل المدينة.
كل شيء في المدينة يبدو للوهلة الأولى عادياً، باستثناء آثار القصف، وهي مريعة، وآثار الاقتتال الداخلي، حيث تبدو الجدران مثقوبة بالرصاص، وهذا بالنسبة لي كان معروفاً ومتوقعاً، أما ما رأيته، وهذا لم يكن متوقعاً، فهو الانتشار الكثيف للمسلحين، وغالبيتهم بلحى طويلة كثة، الكبار بالسن منهم، كان يلوث رأسه بعمامة. لا توجد طريقة لغوية تجزل في إعطاء المعلومات كالعيون، وقد كانت عيون الناس من حولهم مستنكرة هذا الوجود الاستفزازي، ومما يلفت أيضاً انتشار النقاب، وهو ليس الحجاب المتعارف عليه بين سكان الرقة، فالحجاب كان يقتصر على تغطية الرأس، وإخفاء الشعر، بينما النقاب يمتد ليشمل كامل الوجه، باستثناء فتحة لكل عين، وأحيانا حتى تلك الفتحات تكون مغطاة بقماش اسود رقيق وشفاف، ينسدل على كامل الوجه، ويصل إلى العنق. لم أر أي امرأة أو صبية مستثناة من ذلك، بمن في ذلك النساء والصبايا المسيحيات. وأفاد ناشطون أنّ الكتائب النسائية في التنظيم بدأت باستقبال المتطوعات المتزوجات بعدما كان شرط تطوع النساء في التنظيم يقتصر على العازبات، للإشراف على تطبيق الحجاب والنقاب في المدينة، براتب شهري يقال أنه 200 دولار أميركي. إضافة للكتيبتين النسويتين السابقتين، الخنساء، وأم الريان. وقد فرض الحجاب على المدارس أيضا، ابتداء من تلميذات الصف الخامس وصولا إلى طالبات الجامعة، علما أن الجامعتين في الرقة، جامعة الفرات وجامعة الاتحاد الخاصة، كلتاهما أغلقت لمدة أسبوعين، والآن فتحتا من أجل التسجيل فقط، وليس هناك امتحانات أو محاضرات، علما أن الجامعات الأخرى، كجامعة تشرين في اللاذقية، وجامعة البعث في حمص، وجامعة حلب، كل الطلاب في تلك الجامعات هم في حالة امتحان في هذه الفترة. إلا الرقة، فلم يصدر قرار بموعد الامتحانات بعد. ومما يتوقعه المهتمون بالشأن الجامعي، أنه سيتم نقل الطلاب من جامعتي الرقة، أو السماح لمن يرغب بالانتقال إلى الجامعات الأخرى. وقد تم تغيير العطلة الأسبوعية للموظفين، فأصبحت بدلا من الجمعة والسبت، الخميس والجمعة. طابور طويل من الصبر أمام أبواب الأفران، يخترقها، وأحيانا ينظمها عناصر "داعش"، وفي الحالتين ثمة إذلال متقصد للناس. لفتني الكثير من الوجوه الغريبة عن سحنة أبناء المنطقة، فاستفسرت عن ذلك بأسئلة مواربة، فتبين لي أن البعض منهم جاء من آسيا، ولم أستطع أن أعرف من أي دولة بالضبط، والبعض من الشيشان، وثمة من جاء من السعودية، ومن تونس أيضا. وهم في مجملهم يشكلون تقريبا ثلث الأرقام المتداولة لعناصر "داعش" في محافظة الرقة. وهم الأكثر انتشاراً في شوارع الرقة، مما يجعل الناس تعيش رهاب وجودهم. ومما يتناقله سكان الرقة عنهم، أنهم يرتادون المطاعم في كل الوجبات ويأكلون بنهم لافت. سألت أحد الأصدقاء: كيف حدث لكم هذا، والمنطقة مأهولة بكبريات القبائل، حتى أن أصغر قبيلة، يتجاوز تعداد أبنائها ثلاثة أضعاف عناصر "داعش"؟ فأجاب: لأننا أرقام، نتبادل المواقع، حين نتحول إلى أشخاص، آنذاك يمكنك أن تعوّل على وجودنا الكمي، أو النوعي.
إمعانا بالاستخفاف فقد أنشأت "داعش" مكتبا تحت مسمى "مكتب شيوخ العشائر" نصّبت عليه أميرا يدعى أبا فيصل، إلا أنها عزلته في ما بعد، وعينت بديلا منه، فانشق الرجل عنها.
كنت في الشارع حين قام آذان المغرب، حيث تحولت المدينة بسرعة هائلة إلى شوارع خالية، ومحلات مغلقة، فخفت، ودخلت محلا يبيع ألبسة رجالية، فأغلق صاحب المحل الباب الزجاجي من الداخل، وافترش ما يشبه سجادة الصلاة، وقال لي تعال، قلت له: لست على وضوء، فضحك. وقال كلنا... تعال. عرفت أن إجبار الناس على الصلاة، حوّلها إلى تمثيلية .
في المساء حاولت أن أنام، إذ أحسست أن التعب قد هدّني، إلا أن وسادة الغربة التي تحت رأسي، حملت إليّ برد الذكريات، فحال بيني وبين الرقاد. ارتديت ثيابي من جديد، وذهبت إلى أحد الأصدقاء، فوجدته قد عاد لتوّه من مدينة تل أبيض. أخبرني عن حشود القوات التركية على الحدود السورية، من جهة تل أبيض. البوابة الحدودية بتل أبيض مغلقة في وجه من يريد المغادرة إلى تركيا، وتسمح بعودة من يريد العودة من السوريين إلى سوريا، وقد سيطرت "داعش" في وقت سابق على بوابة تل أبيض الحدودية، وفرضت رسما على كل من يريد المغادرة إلى تركيا، بين 4000 و7000 ليرة سورية.
توجست خيفة حين سمعت الباب يطرق، فدخل علينا شاب لا أعرفه، ذو سحنة ريفية. حين جلس سألت صديقي، من يكون، فقال: لا تخف، إنه من الرقة المكرّمة. فضحكنا جميعاً. ثم أردف معرّفاً بالضيف، الذي تبين أنه أحد مؤسسي جبهة تحرير الفرات التي تهدف إلى إخراج "داعش" من الرقة. سألته إن كان لهم مطالب محددة من "داعش" فقال: إننا نريد استعادة حلمنا بالحرية، واستبدال النظام بـ"داعش"، لم يكن يوما من أهدافنا، إنهم نتاج لعبة مخابرات دولية، ومن المؤسف أنها وجدت مراحها في الرقة، إن لم نتحرك ضدهم اليوم، فسندفع ثمن صمتنا عنهم غداً. حاولت معرفة القرارات التي تحاول "داعش" أن تطبقها على الناس في المحافظة، فقال:
1 - يمنع ارتداء الفتاة للجينز والكنزة ويجب ارتداء اللباس الاسلامي العباية والبرقع ويمنع وضع الماكياج.
2 - يمنع التدخين والاركيلة ويعاقب من يخالف بقطع الاصبعين السبابة والوسطى وفي حال عدم الالتزام تصل العقوبة إلى 80 جلدة.
3 - تغلق محلات الحلاقة الرجالية ويمنع تقصير الشعر. ويعاقب من يخالف.
4 - يمنع وضع الملابس النسائية على واجهات المحال ويجب ان تكون البائعة انثى.
5 - تغلق محلات الخياطة النسائية في حال وجود ذكر في المحل.
6 - تزال كل آرمات وإعلانات محلات الكوافير.
7 - يجلد 70 جلدة كل من يتداول كلمة "داعش".
8 - تمنع زيارات النساء لأطباء المعالجة النسائية من الذكور.
9 - يمنع تمشيط الشعر بالتسريحات الحديثة، ووضع أي شيء على الشعر بالنسبة للشباب ويعاقب المخالف بالجلد.
10- يمنع ارتداء بنطال الجينز ذي الخصر الواطئ، بالنسبة للشباب.
سألته إن كان يمزح فأجاب: شر البلية ما يضحك. إنها الحقيقة يا صديقي. التحق بسهرتنا بعض الأصدقاء الجدد، ومما قاله بعضهم إنّ "داعش" سرّحت مقاتلين، ينتمون إلى مدينة الرقة وسحبت اسلحتهم، وإن ثمة معارك في ريف الرقة تستعر بين الحين والآخر بين "داعش" والقوى العسكرية الرافضة لوجودها في الرقة.
في نهاية السهرة سألت إن كان ثمة من يغطي واقع الرقة إعلاميا، بناء على معرفتي السابقة بالكم الكبير من الاعلاميين الذين رأيتهم في شوارع الرقة، وقد كانوا من دول مختلفة، ويرافقهم شباب التنسيقيات في المحافظة، فكان الجواب حرفياً "إنهم يشمون رائحة الصحافي". لذا شهدت الرقة عودة الرجل البخاخ، وهو رجل أو أكثر، يخرج متنكرا متخفيا، ويكتب على الجدران كلمات مناهضة لـ"داعش" بعيدا عن العيون. تذكرت أنني قرأت على الجدران الكثير من العبارات التي تدل على عودة القمع، ومناهضة الاستبداد، إلا أنها ضائعة بين الكم الهائل من الآيات والأحاديث، التي تملأ الشوارع.
ذهب ثلثا تلك الليلة، ونحن نتسامر، وكانت الرقة محور الحديث، ولم يعد أيّ من الحضور إلى بيته، إذ لا أحد على ما يبدو يريد أن يخرج إلى الشارع في وقت متأخر من الليل. علماً أن الرقة لم تكن من المدن التي تنام. استلقيتُ بدوري، إذ كنت مسهدا، إلا أن النوم لم يزر مقلتي. كانت الترتيبات أن أخرج من المدينة الساعة الثامنة بسيارة "تاكسي" إلى أول قرية بعد الجسر القديم، وهناك ينتظرني أحد أصدقائي ليقلني بسيارة إلى موقف البولمانات الذي يقع على أطراف مدينة الطبقة.
في الصباح حاول مضيفي أن يقدم لنا طعام الفطور، فطلبت منه أن أشرب القهوة، ثم غادرنا المدينة في السيارة وكان إلى جانبي في المقعد الخلفي شاب، إضافة إلى آخر يجلس بجانب السائق. أخذوا يتحدثون عن مفارقات تجري في المدينة، ومما ذكروا أن علم النظام، والمقصود به العلم الرسمي، رُفع خلال هذه الفترة أكثر من مرة، وفي أكثر من مكان، ولم يبد أحد استغراباً. في كاراج الطبقة لم أجد سيارة تقلني إلى أي مكان، كلها سيارات تقل الركاب إلى القرى المجاورة، فاضطررت لاستئجار سيارة إلى السلمية من جديد، ومنها استأجرت سيارة، برفقة راكبين آخرين، إلى طرابلس لبنان.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم