الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

كم تبدو الكرة الأرضيّة ضعيفةً وهشّةً وسريعة العطب!

المصدر: "النهار"
محمد شرف
كم تبدو الكرة الأرضيّة ضعيفةً وهشّةً وسريعة العطب!
كم تبدو الكرة الأرضيّة ضعيفةً وهشّةً وسريعة العطب!
A+ A-

أتابع، غالباً وبشغف جارف، على قناة "ديسكوفيري"، البرامج ذات العلاقة بأمور الكون وأسراره. ما أراه وأسمعه، لا يكف عن إثارة دهشتي، علماً أن الشرائط البصرية المترافقة مع الشروح التي يقدمها اختصاصيون أفذاذ، هي ذات طابع إفتراضي. المعلومات التي ينقلها إلينا هؤلاء، بعضها غرائبي وعصيّ على قدرات الفهم التي يتمتّع بها العقل البشري العادي. تبين أن عقولنا اعتادت على تقبّل ما هو محدود في الكيف والكم والمساحة والمسافات.

يقول العلم الفلكي أن هذا الفضاء لا حدود له. فراغ أكثر من هائل، سرمدي، تسبح فيه مليارات المجرّات، تضم كل منها مليارات الكواكب والنجوم، تدور، في كل مجرّة من المجرّات، حول ثقب أسود.

"كل شي ولا هالثقب الأسود"، أقول في سرّي. هذه القوّة الهائلة تفوق تصوّري، كما الأمور الكونيّة برمّتها. ثقب ذو جاذبية مريبة، قادر على سحب كل ما يقترب منه من كواكب أو نجوم وطحنها وابتلاعها. قدرات الثقب الأسود تدفع الإختصاصيين إلى التفكير، والحفر عميقاً في آبار المعرفة، وتُوقِعهم، أحياناً، في العجز عن التفسير الكامل لقدرات هذه الظاهرة وحيثياتها. يقول بعضهم إن أنشتاين، صاحب الدماغ الذي لا تتكرر قدراته كثيراً في التاريخ البشري، قام باكتشافات مثيرة ومهمة، وقذّم تفسيرات جمّة في هذا المجال، ولكن يبدو أنها ليست كافية. يفيد الباحثون أننا في حاجة إلى علم فيزياء آخر، ربما، من أجل إمكان فهم تلك الظواهر، الأقرب إلى اللغز.

في هذا الكون تقع كرتنا الأرضية، التي لا تساوي شيئاً ضمنه، ولا حتى ضمن مجرّة "درب التبانة"، وهي الواقعة على طرف منها تحديداً، حيث شاءت العوامل الكونية "بصق" كرتنا، التي صارت زرقاء لوناً في أزمنة لاحقة بفعل توافر المياه. حاول العلماء تقدير حجم عالمنا الصغير قياساً إلى الكون. وضعوا مقياساً قريباً إلى الفهم والإستيعاب. قالوا: إذا جمعنا كل رمول العالم المنتشرة على الشطآن والبراري، فلن تكون كرتنا الأرضية أكثر من حبة رمل واحدة من ضمن هذه الكمية التي تبلغ مليارات الأطنان. لكن هذه الكرة، وهو هذا العالم الذي لا نعرف سواه، هو مسكننا. مسكن يعيش في الوقت الراهن رهاباً لم تشهده البشرية إلاً مرّات معدودة في تاريخها الطويل.

أطلّ علينا فيروس كورونا من مصدر يختلف عليه حتى الآن أصحاب العلم، في حين يتقاذف سياسيو الدول الكبرى التهم حول مصدره. التهم الصينيون حيوانات لا نقربها نحن، وقد يُقرفنا مظهرها، فانتقلت إليهم العدوى، كما يُقال. يصرّ آخرون على أن الفيروس هو صناعة بشرية ذات أبعاد سياسية وإقتصادية، ويعيد بعض آخر السبب إلى الغضب الإلهي الذي انصبّ على خليقةٍ بلغ بها الكفر والإستهتار درجة لا يمكن السكوت عنها. لم نألف وباءً من هذا النوع، يبدو الكريب العادي، بالقياس إليه، كمن يقيم مقارنة بين لعبة للأطفال ووحش غامض. امتزجت المخيلة الشعبية مع الأبحاث العلمية كي تفضي إلى تفسيرات ونصائح من أجل الوقاية أودت بالكثيرين إلى هواجس مرضية، ووساوس قهرية، ومعتقدات من كل صنف.

عادت إلى ذاكرتي تلك الطرفة التي أطلقها أحد مقدمي البرامج الترفيهية التلفزيونية في فرنسا، في تسعينات القرن المنصرم، حين طرح سؤالاً حول ما إذا كان الإستمناء قد يؤدي إلى الإصابة بمرض الإيدز، الذي كان هاجساً في تلك المرحلة الزمنية. الإصابة بالإيدز قد تتأتى من شيء حرزان، لذّة قد تكون قاتلة، أمّا الكورونا...

قمتُ بجولة في سوق المدينة. رأيتُ رعباً صامتاً لم أشهده من قبل. تحافظ الخليقة على مسافة آمنة بين أفرادها، تطبيقاً لتعليمات الجهات الطبية. لم أرَ إناساً مطواعين على هذا النحو من قبل، وهم الذين عُرف عنهم الشغف بالفوضى وعدم التقيّد بالقوانين. حين يتبدّى الموت في الأفق من عدوٍّ لامرئي، تبدو الشجاعة ضرباً من الجنون المجاني، كذاك التحدّي الأخرق الذي مارسه البعض في أحد شوارع بيروت، أو تلك الجماعة التي تظاهرت قرب أحد المزارات الدينية احتجاجاً على إغلاقها.

أشرس الأعداء هم أولئك الذين لا نراهم، ولا نعلم بأمكنة وجودهم، ونجهل قدراتهم الكاملة. قالوا إن الوباء ينتشر على جميع الأسطح، فمنعتني شقيقتي من دخول المنزل منتعلاً حذائي، بعدما قرأتْ أن الفيروس يحط على الإسفلت، ولا يغادره لفترة طويلة. أقفلت محلات بيع قهوة الإسبرسّو في المدينة، وهي التي لم تقفل حتى في عز حرب 2006. كان عليّ أن أحتاط للأمر، وأبتاع جهازاً لصنع قهوة الإسبرسّو، لكوني من مناصري هذا النوع من القهوة دون سواها. أقصد سوبرماركات المدينة بعد التاسعة ليلاً، تجنّباً للإزدحام، في الوقت الذي تجتمع فيه الجماهير حول التلفزيون لمشاهدة "توك شو" يديره مقدّم برامج سمج.

غاص العالم كلّه في وحول الكورونا. لم يوفّر الوباء أحداً. يُمنع الناس من التجوّل في مدن لم تعتد العيش من دون جحافل بشريّة، وأرتال من الناس تضيق بهم شوارعها. الخوف يلفّ العالم كما لم يلفّه من قبل. هذه الكرة الأرضية، التي لا تساوي أكثر من حبة رمل في موازين الكون، تبدو الآن ضعيفة، هشّة، وسريعة العطب حين يهاجمها عدوّ شرس.

ابحثوا عن الحكمة في ما تقدّمنا به!

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم