السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

الياس الرحباني: طفلٌ مجنون يلعب

المصدر: "النهار"
ربيعة أبي فاضل
الياس الرحباني: طفلٌ مجنون يلعب
الياس الرحباني: طفلٌ مجنون يلعب
A+ A-

لحظَ غابريال مارسيل أنّ بين التطوّر التكنولوجي وفلسفة الخَيبه (Philosophie de désespoir) تفاعلاً عضوياً، كما خلص ألبير كامو إلى أنّ النّوستالجيا (la nostaglie) تغلبُ العلمَ، وسلطته. وبدوره حدّث يونغ عن الطّفل الذي لا يموت، في الرّجل، وركّز فرويد في عصاب الأنا، وانكسارها بإزاء تحديّات الخارج. ولن أنسى في سياق هذه الكلمة، أنّ آلهة الأولمب، أبولون، وغيره يتّخذون صورة الطّفولة الخالدة، (L’épiphanie est toujours celle de l’enfant divin)، وأكثر ما يهمّني، وأنا أقرأ "نافذة القمر" لـِ الياس الرّحباني، هو القول إنّ الطّفل، في مقام التّجربة الشّعريّة، هو رؤية معيشة حيّة ناتجة من تبعثر اللّاوعي، وتناقضات الوجود المُحيط بالّذات.

هذه مقدّمة موجزة لتطّلع حال الياس الرّحباني الطّفل الذي انكسرَ، وعاد إلى لاوعيه، لعلّه يَجبرُ جراحَهُ، نتيجة صراع دام بينه وبين زمانه، وأهل عصره. قيل لي إنّه عاد إلى عزلته طفلاً، عاد إلى غربته، وجنونه، فنّاناً، كأنّه إلهٌ هندوسيّ يلعب بالشّمس والقمر، وبالنّاس والقدر، ويعيد صوغ الوجود. اقرأوا، معي، مُعجَمه الطفّوليّ، في "نافذة القمر":

• أطلّ النجمُ، رآه الطفل، حملهُ إلى غرفته، وأضاعه بين لعبه (ص 13)

• رأيتُ القمر، في ساقية، وأنا صغير، أخذتهُ إلى غرفتي، وغفوَتُ حدّه (ص 19)

• شمسُ المدينة الغريبة تحرقُ الطّفولة، تحرق الذّكريات (ص 20)

• اقتربَ الطّفلُ، راح يلهو بطائر البوم (ص 21)

• الأطفالُ هرموا في ليلة واحدة (ص 22)

• الأولادُ يزيّنون السّماء بطائرات الورق، وفي بيت جدّتي، انطفأ السّهر (ص 26)

• قال الطّفل لأَخيه ... سأشتغل بابا نويل، ستكون لحيتي بيضاء، وأنتَ صغيرٌ تلهو باللّعب (ص 36)

• ليتكِ تعودينَ يا جدّتي فأرجعَ طفلاً ينامُ بين يديك، تُخبرينه قصص الشّتاء (ص 41)

• لا أسمعُ سوى انفجارات القنابل، وأنينِ الأَطفال النّائمين (ص 42)

• تستيقظُ، يا صغيري، ذاتَ صباح، فتَرى الطّفولة .. كدّسِ الفرحَ واللّعب، طاردْ فراشاتِ الحقل ... نهايةُ الفرح حزينة (ص 45)

• طِفلٌ مجنونٌ هذا الفنان (ص 57)

لا شكّ في أنّ رؤية الياس الرّحباني هي نتيجة تجربة معيشة، حاول صاحبها أن ينقلنا، عبر شعره من الـ Problème إلى الـ mystère، وفقَ لغّة غبريال مارسيل، وعلى قاعدة طالما كرّرها كامو، في أسطورة سيزيف": “Il n’y a pas de frontière entre ce qu’un homme veut être et ce qu’il est”.

وفي اعتقادي أنّ هذا الفنان الحسّاس، الراقي، المبدع، صُعق نتيجةَ التّعارض الحادّ بين روحٍ طفلة، تقدّس الفنّ، وتريدُ السّلام في الحياة، وتنمو بالتأمّل والتطلّع، والعشق، وعالمٍ آخرَ يحوطُ بالذّات المبدعة، ويَجرفها بالضّجيج والفوضى، وسياسية التفرقة، والحقد، والعنف، والأمراض، فيحاول، طوال عمره، خلع هذا العبثِ الأسود، والاحتماءَ بالطّفولة، والعزلة، والبراءة. نحن نفهمه حتماً، لأنّ عذابه عذابنا، وحلمه حلمنا، وغيابه في المعاناة هو غياب كلّ مخلص مَنحَ نفسه للفنون، أو الجنون أو الطّفولة، بعد أن عايش أشباح التّكنولوجيا، وعبيد المادة. أكتفي بهذه الكلمة، وأرغب إلى القارئ في أن يتذوّق هذا النصّ، من "نافذة القمر" (ص 57)، لهذا الرّحباني الذي ساهم في بناء شاهقة موسيقيّة خالدة، وانضمّ إلى المدرسة الرحبانية عموداً أصيلاً، ومُغرقاً في الحداثة الأبديّة...

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم