الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

مفقود الهوية

المصدر: النهار
كريستين السويدي
مفقود الهوية
مفقود الهوية
A+ A-

مساء الخير،

"مرحباً، كيف حالُك..؟

من بعد كل هذه السنين التي مضت وأنا لا أعلم ماذا حلّ بك، أكتب إليك لمعرفة أحوالك وطمأنة أفكاري التي لا تزال عالقة عندك في أول مرّة تعرفت إليك بها. يا للعجب، لم أتوقّع قطّ أن يأتي يوم من الأيام تصبح الشخص الذي لا يمكن تمضية وقتي أو حتى ساعة من دون التحدّث معه، فأصبحت نهاري وليلي، تملأ كل ثانية من أوقاتي، لا أملّ منك، كنسمةٍ تنعش قلبي، كطفلٍ يبتسم لعجوز أوقع نظراته، والكثير من التشابيه التي لا تستطيع وصف مدى لمسك ما هو أعمق من روحي... لن أنكر أنني اشتقت إليك وأبْسط ما فيك صوت ضحكتك وطريقة تحديقك بي لتقبيلي، فكل مرة تسمع حماقتي وطريقة بعثرتي لسرد الأحداث... كتب العالم لا تستطيع احتواها للأمور الجميلة التي حدثت بيننا... ربما تراني أبالغ بطريقة وصفي للحظات ولكن أحدثْت إنقلاباً بداخلي.

أشعر كأنني حيّة بين هذه الأسطر المليئة بذكرياتنا الحميمة التي أمضيناها سوياً ننظر بعيني بعضنا البعض، وأطفو بعيداً وأندمج بعالمك الذي شكل أكبر جزء من حياتي التي أصارع حتى الآن لمداواتها بسبب القروح التي سببتها لنفسي.

نعم، سببت لنفسي العناء من بعد كل تلك السنين التي أمضيتها بعيدة عنك، بعد أن أصبحتَ كلماتي وأفكاري وكلّي... يا للدّمار الذي حلّ بي، في أيّامي الأولى لم أتقبل فكرة ابتعادك عني، أصبحت تائهة بين سطور أفكاري وعالمي وبين الواقع المفروض عليّ تقبّله لعدم عيشي فيه كل تلك الفترة... تخّبّطت كثيراً، مررت بأوقات ضعف لمغادرة الحياة وكأنها تسمّى حياة بدونك بجانبي... ولكن، نظرت إلى نفسي، أشبه بالميت، غضبت لأنني أفسحت المجال لتملُّكِك حياتي حتى وفي ضعفي... وبعدها، بدأت مسيرة إسترجاع كنزي الضائع وهو "هويتي"، من أنا، ماهي نقاط قوتي، ضعفي، ماذا أقوم في أوقات فراغي، كيف أستطيع أن اكتشف نفسي أكثر فأكثر، وفي مسيرتي علمت بأنني لم أكن يوماً في الحياة، بل في الموت وتحديداً في قعر البئر، أشدّ الحبل للخروج من تلك الدوامة التي امتصّت طاقتي وحيويتي، أصبحت أحب نفسي أكثر، أتوق لمعرفة المزيد من الخفايا وكأنني في رحلة استكشاف كنز أو تحطيم رقم قياسي، أستغرب عدم إدراكي عدة أمور كان بإمكاني تنميتها والاستفادة منها، فتعجّبت بوجودها فيّ أنا... والآن، من بعد تلك المسيرة الاستكشافية، أكتب إليك ليس بنية الحقد أو الإهانة، بل لشكرك على تلك الخطوة التي قمت بها، لأنني أدركت فعلاً افتقادي لهوية، كنت مجرد قطعة منك، لدرجة إن لم تتواجد فأنا لست بإنسان موجود، وأشدّد على كلمة "موجود" كونها تستعمل للأشياء الجامدة ولا لكائن حيّ، ولكن الآن أصبحت "حاضرة".

كم هي جميلة تلك اللحظة التي تدرك فيها أنك حاضر وليس موجوداً... أكرر شكري لداخلي المشقق الذي آمن بتوحيد قطعه المفككة، وحتى الآن لا زلت أنمي قدراتي وأتعرف إلى المزيد من الأمور، أقترب من كياني أكثر فأكثر لأنها ليست فترة مؤقتة بل مسيرة حياة.

والآن، آن الأوان لتوديعك، لكن للمرة الأخيرة، لأنك أصبحت من الماضي ولن أسمح بتكراره مرة أخرى، وإيقاعي في مستنقع، قد يولّد داخلي فراغاً موحشاً يجذب الوحدة والتفكّك... كلماتي الأخيرة لك، راجع ضميرك وكيانك، تجرّأ بالغوص في عمقك، فأنا متأكدة أنك لم تتعرف إلى ما هو أنت بالفعل، فقد كنت قطعة أخرى من شخصٍ آخر وغيره من الأشخاص الذين يحاولون تكوين أنفسهم بقطع ليست منهم ولهم، واكتشفت أنني واحدة منهم.

وداعاً، فقط إعتن بنفسك، ربما تعتبر نفسك حاضراً ولكن إبحث عن جوهرك الحقيقي، على أي حال، تأخرت على أصدقائي، عليّ الذهاب،

وداعاً.."

هكذا كانت تقوّي نفسها في أوقاتها الصعبة والمريرة، التي كانت تبحث عن ملجأ يتبنّاها، لعلّها دائماً آمنت "بأن لا أحد يستطيع الوقوف بجانبها إن لم تكن تريد الوقوف بجانب نفسها".

عندها أغلقت دفتر مذكراتها وخرجت لموافاة العالم واكتشاف ما حولها وداخلها من وزنات.



الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم