الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

كورونا إذ يضعنا وجهًا لوجه أمام عزلتنا الوجودية

غسان صليبي
كورونا إذ يضعنا وجهًا لوجه أمام عزلتنا الوجودية
كورونا إذ يضعنا وجهًا لوجه أمام عزلتنا الوجودية
A+ A-

كورونا فيروس مُعولَم. فعولمة الشيء تعني جعله عالميًّا. لكن كورونا لم يصبح عالميًّا فقط لإنتقاله السريع من الصين الى بلدان العالم. بل ايضًا لانه انتقل من الحيوان الى الإنسان، وهذا ما يجعل العولمة ظاهرة تواصل وتبادل بين الكائنات الحيّة ايضًا.

من عادتنا ان نعرّف العولمة كظاهرة عالمية تشهد تبادلاً للرساميل والسلع والأفراد والثقافات. لا بدّ من إضافة "تبادل الأوبئة" إلى التعريف المتداول حتى الآن.

لكن في حين ان التبادل بين العناصر الأخرى وسّع أفق العولمة وفتح لها الأبواب، إلاّ ان "تبادل الأوبئة" مع كورونا ساهم في تقطيع أوصال هذه العولمة.

حركة الإقتصاد تتعطّل أو تتباطأ، الرساميل تحتجب، والأفراد يلتزمون عدم الإنتقال من بلد الى بلد لا بل من مكان الى آخر داخل البلد الواحد.

التفاعل بين البشر ملجوم الى أبعد حدّ، فلا لقاءات ولا احتفالات ولا مؤتمرات ولا ورش عمل.

التواصل الجسدي محرّم، أكان مصافحةً أم تقبيلاً أم عناقًا. أفراد العائلة متضامنون لكنهم خائفون بعضهم من بعض، خوفهم من إنتقال العدوى الى احدهم وتعميمه على الأفراد الآخرين.

ها هو الإنسان يقف وحيدًا في مواجهة كورونا. ها هو يقف وجهًا لوجه أمام احساسه بالوحدة الذي اعتقد انه تخلّص منه الى الأبد وسط تعدّد الشبكات الوطنيّة والعالميّة، التي تبقيه على تواصل دائم مع الآخرين.

ليست هذه ظاهرة التقوقع الوحيدة داخل العولمة. فلقد أفرزت العولمة نقيضها ايضًا من خلال إحياء حمّى "الهويات" الوطنيّة والدينيّة والجندريّة والجنسيّة، التي تنظمت، ونظّمت حركات إجتماعيّة تطالب بالحقوق المتّصلة بهويّتها. لكنها ربما هي المرة الأولى يطال التقوقع الفرد نفسه وليس الجماعة التي ينتمي اليها.

مواجهة كورونا تفترض إذًا الحجر على الإنسان، أو عزله لمنعه من التواصل المباشر مع الآخرين. أي عمليًّا جعله وحيدًا مع كل ما تتسبب به الوحدة والعزلة من معاناة للانسان، ومن تحديّات وجوديّة.

أميل الى الإعتقاد ان ممانعة الناس اتخاذ التدابير الوقائية، ليست فقط نتيجة نزعة دينية تلقي على عاتق الله مسؤولية الحماية. بل هي في الأساس تفادٍ للإحساس بألم العزلة أو الوحدة. ألا تشبه عوارض العزلة عن الآخرين، وعدم مصافحتهم وتقبيلهم ومعانقتهم، عوارض كورونا: حرارة في الرأس، وضيق في التنفس وآلام في الجسم؟

لقد جعل ايريك فروم من الإحساس بالوحدة والعزلة عند الإنسان منطلقًا لفهم سلوكيات البشر المختلفة وقد لخّص ذلك في كتابه القديم والمعروف "فن الحب".

وعى الإنسان انه كائن وحيد، ذو شخصية مستقلّة عن الآخرين وعن العالم، يولد ويموت بدون إرادته، ويعيش عاجزًا عن مواجهة قوى المجتمع والطبيعة، يخلق داخله خوفًا وقلقًا شديدين يحفزّانه للخروج من هذا السجن وإيجاد أشكال من الوحدة مع الآخرين ومع العالم.

يلاحظ فروم ان الإنسان وجد ثلاثة أنواع من الحلول للخروج من وحدته وعزلته: الإنغماس في الملذات، التماثل مع الآخرين، والحب.

يهدف الإنغماس في الملذات الى الوصول الى النشوة، أكان ذلك عبر الكحول أم الجنس أم المخدرات أم غير ذلك من الوسائل. الشعور بالنشوة ينسيك وجود العالم الخارجي. تاليا، ينسيك عزلتك عنه.

للنشوة خصائص ثلاث: قوة المشاعر وعنفها أحيانًا، شمولها الروح والجسد على حدّ سواء، وكونها عابرة ودوريّة. هذه الخصائص معاكسة تمامًا لخصائص التماثل مع الآخرين، الذي هو شكل آخر من أشكال الهروب من الوحدة والعزلة. وهو الشكل الذي يلجأ اليه البشر أكثر من غيره.

الشعور بان الإنسان متشابه مع الآخرين، في أفكارهم وأحاسيسهم وعاداتهم، يريحه من رعب الإحساس بالوحدة.

رغم تمايزه عن الشكل الأول من التوحّد مع العالم ومع الآخرين، كونه أكثر ديمومة، إلاّ انه يطال العقل وبدرجة اقل الجسد، كما انه يتم بدون أحاسيس قويّة وبشيء من الروتين. لذلك هو غير كافٍ أحيانًا لطمأنة القلق الوجودي من الوحدة ويستنجد بالنشوة بين وقت وآخر.

الشكل الثالث والأهم بالنسبة إلى فروم، هو الحب، أو الوحدة مع الآخر أو الانصهار معه في بوتقة واحدة.

فروم يميّز بين الحب السليم والحب المرضي الذي يفقد فيه الطرفان استقلاليتهما وتمايزهما كفردين مستقلين. ويؤدّي ذلك احيانًا الى أشكال من الساديّة والمازوشيّة بين الاثنين، كنتيجة لتبعيّة أحدهما للآخر، وخضوعه له.

الحب هو هذه الطاقة البشريّة التي تكسر الحواجز بين الإنسان والآخر، وتحرّره من الوحدة والعزلة. لذا، الحب عطاءٌ أكثر مما هو أخذٌ، وإن كانت قوّته هي بجعل الآخر يعطي ايضًا.

العطاء هو أقوى تعبير عن "القدرة" الكامنة عند الإنسان، التي من خلالها يختبر انه يعيش، وهذه التجربة تعطيه شعورًا بالسعادة.

القدرة على العطاء كممارسة أساسيّة في الحب، تعتمد على مدى إستقلاليّة الفرد وبُعدَه عن إستغلال الآخرين وعدم شغفه بتجميع الأموال والأشياء. تفترض ممارسة الحب، الرعاية والمسؤوليّة والاحترام والمعرفة.

***

كورونا لا يبالي بأزماتنا الوجوديّة، أو لعله مثلنا يشعر بالوحدة ولا يستطيع العيش إلاّ إذا انصهر في خلايا الكائنات الإنسانيّة أو الحيوانيّة. وهو بفعلته، يضاعف احساسنا بالوحدة والعزلة. ويضيف الخوف من المرض ومن الموت، الذي تتراوح حدته بين بلد وآخر، بحسب امكانات الرعاية الصحية.

لكن تأثير كورونا على الاشكال الثلاثة التي اعتمدتها البشرية لتجاوز هذا الأحساس بالعزلة، لم يكن بالحدّة نفسها.

فهو، وإن عطّل التجمعات، أبقى التماثل بين البشر قويًّا، بفعل انهم باتوا يعيشون حالة واحدة في مواجهة الفيروس ويتخذون الإجراءات نفسها للوقاية منه.

لكنه في المقابل أجَّج الحاجة الى النشوة والى الملذات حتى ولو كانت فرديّة.

أمّا الأذى الأكبر فقد ألحقه كورونا في الحب حيث قلّص التواصل الجسدي الى حدّه الأدنى، لا بل جعل الإنسان يخاف الآخر بدل ان يحبّه. لعلّنا سنحتاج الى جهد كبير فكريًّا وجسديًّا لمحاولة تجاوز هذه الصدمة الوجوديّة.

لا أعرف إذا كان هناك من جواب عن أزمة الحب سوى المزيد من الحب. وإذا كان الحب يتطلّب رعاية ومسؤوليّة واحتراما ومعرفة، فلعلنا إذا حاولنا إستخدام العناصر نفسها في الوقاية من كورونا وفي مواجهته، نكون قد استعدنا في الوقت نفسه، ولو بشكل غير مباشر، الممارسات التي تعيد الى قلوبنا الإحساس بالحب.

سيكون علينا بعد صدمة كورونا، مراجعة علاقتنا بالطبيعة وبالآخرين، وبموقع الحب في حياتنا البشرية، كعلاج وحيد، كما يبدو، لمأساتنا الوجودية. فضلا عن اهمية الرعاية الصحية، وخصوصا بعدما أضعفتها السياسات النيوليبيرالية، مقتطعة جزءا كبيرا من موازنتها، وواضعة اياها تحت رحمة القطاع الخاص وارباحه. وهذه نزعة عامة للعولمة، زادت من احساس الانسان بالوحدة والعزلة، بعدما تركته الدولة يدبر اموره بنفسه.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم