الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

ترانيم العصافير الحزينة

مصعب الشيخ علي
ترانيم العصافير الحزينة
ترانيم العصافير الحزينة
A+ A-

كان الزمان أيام تحرير الخيول من المرابض

وكانت تدفع بحدواتها أبواب الإسطبلات الخشبية

وتمزق الوهق المشدود حول الأعناق

مندفعة وسط الضباب

وكنت وحدي

وأيمن يركض فوق التلال

بين الأشواك والأزهار والأعشاب البرية

تحت سور القلعة العظيمة

يفتح كيسه ويمضي

وراء أثر الفراش

والعصافير ترنّم لحناً حزيناً

في قيظ الظهيرة

جبهة سمراء

وشمس ساطعة

وفراشٌ ولحن حزين

وأيمن يركض

يعدو نحو نبع الماء

كان يشرب بكفين من الطين والشقاء

أيمن وحده يمضي

يتخذ القرار

وأنا أراقب من بعيد

والعصافير ترنم لحنها الحزين.

لمن لم يعرف أيمن

أيمن كان طفلاً شقياً صغيراً

له تسعة أخوة

ينامون تحت الصفيح

والده كان أشيب عجوزاً

منذ عشرين عاماً وأنا أعرفه عجوزاً

يطحن الرمل والحصى

ويعجن طوباً لأهل المخيم.

أيمن كان يهوى الصيد

ولكن لم تكن لديه بندقية

كانت لديه يدان سمراوان

وعود من الخشب والمطاط والحصى

حصى كثيرة لا تعد ولا تحصى

كانت ترصف بها الشوارع

كان يستيقظ قبل الصباح

ليركض خلف الفراشات

يحمل بيده كيسه

ولفّافة من الخبز والماء والسكر

ليعود باكراً ليتعلم كيف تعجن الطوب

من الرمال والحصى

حتى يأتي الشتاء

ويمكث بين أخوته التسعة في الغرفة الضيقة

يوقدون الأغصان التي شذبت عن أشجار الزيتون

في الكرم المعلق على سفح الجبل.

أيمن كان لديه كرم على سفح الجبل

كان يحلم بأن يصطحبه أخواه ذات يوم

في موسم الكمأة وسط الضباب

ولكنه كان لا يزال صغيراً

كان عليه أن يتعلم القراءة والكتابة

على يدي أخته الوحيدة

التي حصلت على الشهادة الثانوية

وعليه أن يتعلم صناعة الطوب

على يدي والده العجوز

لكنه كان يكسر القواعد والطوب دوماً

ويتلقى توبيخ والده وأخته

وهو لا يأبه بشيء

يحمل كيسه ويركض خلف الفراشات

ويتبع ترانيم العصافير الحزينة

وقرب المنزل كان هنالك بستان

شجر من الجوز والتين والكرز

ومسجد للصلاة

كل جمعة كانت تذهب عائلته إلى المسجد وقت الظهيرة

أما أيمن

فكان يلهو بين أشجار الجوز الفارعة

ينحت اسمه على لحاء ساقها

ويدوّن تواريخ ما زالت موجودة حتى الآن.

وفجأة يكبر أيمن

ينبت له شاربان

ويقرع باب المنزل في الصباح

رجال في زيّ العسكر

يسألون عن أيمن

وهو يتلصص على ما يدور من حديث بينهم مع أخيه الأكبر على الباب

"- أنت أخوه؟

ـ نعم

- "هذا هو التبليغ الرسمي؛

عليه أن يلتحق بالسرية نهاية الأسبوع المقبل

تحت طائلة العقوبات"

أسبوعان فقط أمام أيمن

لكي يودع الطوب والفراشات وأحرف الأبجدية

وكرم الجوز وسور المدينة.

أم أيمن كانت تبكي

لكنها لا تدري ماذا تفعل الآن

توضب له بعضاً من الملابس والطعام في حقيبة سوداء

يوصله والده إلى مركز الجندية ويودعه

وهو يوصيه أن "يتّبع الأوامر ويتصرّف كالرجال"

ويمضي المركب

ليس في ذاكرة أيمن شيء

سوى بيت الصفيح وليالي الشتاء

فطر الكمأة والكرم والضباب

أحرف الأبجدية والطوب وكرم الجوز والفراش

وترانيم العصافير الحزينة.

وأيمن لا يعود

تنقطع عنه الأخبار

شهر، شهران، ثلاثة وأكثر

وأيمن لا يردّ على المراسيل التي كانت تبعث

ولا أحد يجيب على شيء

وأيمن محاصر في الخندق

تحت غطاء من الرصاص

يلقي البندقية ويركض فوق التلال

ويغيب في السراب.

وكان وقت الظهيرة

عندما كان يطرق على الباب

وتفزع أم أيمن عندما كان يكلم زوجها الرجل ذا الزي الأخضر

كان يتلقى النبأ

أن أيمن قد رحل مؤخراً على إثر معركة حامية مع الأعداء

أعداء لم يسمِّهم أحد

ولم يكن يجرؤ على السؤال عنهم أحد

وأمّ أيمن تلطم وجنتيها وتبكي

لقد رحل إلى الأبد

وسط جنازة مهيبة

كان رفاقه فيها يغدقون الرصاص في الهواء

رصاص كان يحرر مدينة محتلة

ورحلت إلى الأبد

ذكريات بيت الصفيح وليالي الشتاء

فطر الكمأة والكرم والضباب

أحرف الأبجدية والطوب

وكرم الجوز والفراشات

كلها رحلت

ولم يبق سوى ترانيم العصافير الحزينة.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم