الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

صرخ الرجل صرخة الثورة المجروحة في المصرف: بدّي مصريّاتي. بدّي ياهن!

المصدر: "النهار"
عقل العويط
عقل العويط
صرخ الرجل صرخة الثورة المجروحة في المصرف: بدّي مصريّاتي. بدّي ياهن!
صرخ الرجل صرخة الثورة المجروحة في المصرف: بدّي مصريّاتي. بدّي ياهن!
A+ A-

وضع الرجل يديه على رأسه من الجهتَين، وأطلق صرخةً مدوّيةً هزّت أركان المصرف، مُطالِبًا الموظّفين هناك، بل مُطالِبًا سلطة العدم الماليّ - السياسيّ اللبنانيّ بأعلى صوته المذبوح: بدّي مصريّاتي.

ثمّ كرّر صرخته بصوتٍ مأسويٍّ قائلًا: بدّي مصريّاتي. بدّي ياهن.

في أوّل المشهد كان الرجل يحمل قنينةً ملأى بالبنزين.

لكنّه لم يكن يريد، على ما أعتقد وأظنّ، إضرام النار في المكان، ولا في نفسه.

كان يريد فقط التهويل بالبنزين.

ذلك أنّ حاجته كانت فقط إلى ما يحفظ الكرامة، وشرف العيش، ويؤمّن رغيف الخبز.

وكانت هذه الحاجة أقوى من أيِّ اعتبارٍ آخر.

لا شيء في مظهر الرجل يوحي بأنّه مجرمٌ أو رجلُ عصابات أو شرّيرٌ. لا شيء من ذلك على الإطلاق.

كان يحمل حقًّا قنينةً ملأى بالبنزين، لكنّ ذلك إنّما كان يدلّ على ما يستعر في وجدانه من مرارةٍ وإحباطٍ ويأس، أكثر من أيّ احتمالٍ آخر.

روحُهُ المذبوحة المتداعية، كانت هي الشهادة، وهي المعنى، وهي الدلالة، وهي البرهان.

الفيديو المتناقَل عبر وسائل التواصل، كان صادقًا للغاية، وواضحًا للغاية، ولا ينطوي على أيِّ التباسٍ، أو فبركةٍ مصطنعة.

لا شيء من الفبركة والاصطناع في الفيديو. لا شيء من ذلك، البتّة.

الرجل بذاته أفصح عن السرّ. وليس من سرّ.

سرُّهُ، على كلّ حال، لم يكن موضع حيرةٍ، ولا موضعَ شكوك.

فالرجل لم يكن يعاني مرضًا جسديًّا، ولا مصابًا بأيِّ عاهةٍ نفسيّةٍ أو عقليّة.

بدا فقط بجسده المتثاقل، وبروحه المتداعية المتلجلجة، متألّمًا للغاية. متألّمًا لا أكثر ولا أقلّ.

كان فقط يتألّم. وكان ألمه ينزف منه نزفًا تراجيديًّا، حتّى ما عاد أيُّ شيءٍ آخر يُرى في المكان.

الصوت المثخن بالتراجيديا، كان وحده اختصارًا لمشهد المصرف هناك، بل كان اختصارًا للبنان.

على الهامش، تناهى إلينا من أعماق الفيديو، صوتُ امرأة يقول: شفتي مين عم يعمل مشاكل؟ هودي الثوّار...

لا، يا سيّدتي. لم يكن الرجل "مدفوعًا" من أحد. ولا خصوصًا من الثوّار. ولا من المنتفضين. ولا من الشيوعيّين.

على كلّ حال، هؤلاء، يا سيّدتي، ليسوا بعبعًا.


إنّهم، وغيرهُم كُثُرٌ كُثُرٌ كُثُر، مواطنون تذبحهم سلطة المال، وسلطة طبقة الموت السياسيّة الدنيئة.

هذا الرجل، يا سيّدتي، قد "دفعته" روحه المتداعية دفعًا إلى هناك، فقصد المصرف بجسده المتثاقل، وبمشيته التي تبثّ الأنين، وتخترق جدار العدم، طلبًا للحقّ المصادَر، المنهوب، والمسروق. وإلى آخره.

وها الفقراء جميعهم يصرخون بصوت هذا الرجل: بدنا مصريّاتنا. بدنا ياهن.

وها هم الفقراء الثوّار المنتفضون الأحرار الأوادم يطلقون صرختهم في وجه سلطة المال، كما في وجه سلطة الموت السياسيّ الدنيء.

وليعلم مَن يريد أنْ يعلم، وخصوصًا مَن لا يريد أنْ يعلم، أنّ لبنان كلّه سيتحوّل بعد قليل، من أعلاه إلى أسفله، ومن أقصاه إلى أدناه، لا ليصرخ مع هذا الرجل، بل ليصير هذا الرجل، ولينشب صرخته الثوريّة المدوّية في قلب السلطة، سلطة المال وسلطة الطبقة السياسيّة الحاكمة، وينتزع قلبها انتزاعاً، ويرميه على القارعة، طعامًا لمَن لا طعام له. أو حتّى يرميه لمَن لا يريد طعامًا. بل يريد حرّيّة.

دخل الرجل إلى المصرف وأطلق صرخته المأسويّة المدوّية، لينشبها في قلب السلطة، قائلًا: بدّي مصريّاتي. بدّي ياهن.

أنا نفسي أتقمّص صرخة هذا الرجل. وأنشبها.

بعد قليل - ولتتحسّس السلطة رقبتها وقلبها - لبنان كلّه سيتقمّص صرخة هذا الرجل. وسينشبها في رقبة السلطة وقلبها. والسلام.

[email protected]



الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم