الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

رسائل الموسيقى والحرب

شيرين صالح
رسائل الموسيقى والحرب
رسائل الموسيقى والحرب
A+ A-

"باتت مخيِّلتي صفحاتِ ذكرياتٍ، مكتوبةً ومخفيّة كالحنين. حين كنت أغنّي على خشبة "مسرح محمد شيخو"، يومَ إحياء ذكرى الشاعر الكردي يوسف برازي بمدينة القامشلي، كأنما جسدي أضحى الأغنيةَ "كُلِيْ زارْ"، صار صوتي يشدّني إلى خشبة المسرح، حيث غنّيتُ للمرة الأولى في حفلة برأس العين (سري كانيه). رأيتُ مخيِّلتي في أنظار المنصتين، حاولتُ أن أجسّد بصوتي، كمزكين طاهر، ما أفكّر فيه، وأسيرَ بهم بروح جمعيّةٍ إلى بيت الشاعر في سري كانيه، أن نحوّمَ كغيوم صيفيّة إلى عوالمه.

في الحفلة الأولى التي أحييتها على المسرح نفسه، دعماً لنازحي تل أبيض وسري كانيه، حلّقتُ بيَ جسداً وروحاً إلى مدينتي؛ جلست في ظلال أشجار الرمان في فِناء بيتنا، كنا نتبادل الأحاديث عن أمورنا العالقة في الحياة مع العائلة، وأقاصيصَ الطفولة والحرب والأمل...

خلال قصف الجيش الوطني السوري والمدعوم من تركيا، خرجنا من سري كانيه، أنا وزوجي وابنتيَّ "جيا" و"لولان"، ألقيت نظرة أخيرة على أشجار مقصف "سيروب" و شارع "الكورنيش"، تذكرت زخّاتَ المطر، كانت تسيرُ.. وأسيرُ بها في جنون، أهرولُ، أتعثر، أضحكُ. تركت بيتي الذي رتّبته بعد عودتنا من مدينة ديار بكر (آمَدْ) قبل أشهر. تركت آلاتي الموسيقية بغرفة في بيتنا. أحياناً، تحملني اللحظاتُ إلى سري كانيه مع آلاتي الوترية التي عزفتُ عليها، تتخطى المسافاتِ وعنفَ الاحتلال، أعانقها وتعود بي إلى هنا، فأعزف وأغنّي؛ أجمعُ كلَّ الذين رحلوا وهُجِّروا من بيوتهم، كما تجمعُ القصيدةُ قوافيها، لننبض معاً بآتٍ ناعمٍ، نحيا فيه على أرضنا بهدوء، فأرواحنا لم تزل تحت سمائنا، نحن على وشك أن نتوحد أجساداً وأرواحاً، في مدننا. إنها مسألة وقت لا أكثر.

في الصباح، حين تتجهز ابنتي جيا للذهاب إلى المدرسة، أرى فيها طمأنينة الغد، أرى في حديثها وهي تتكلم عن مدرستها وأصدقائها حضناً لغموض ما، قد يحصل في هذه البلاد التي شوّهتها الحروبُ حتى بات الموتُ حدثاً مُعاداً، غيرَ محزنٍ مهما تكن صورته موجعة.

انتابني الفزع حين رأيت صور ضحايا أسلحة الفوسفور والنابالم التي استخدمت في سري كانيه؛ تذكرتُ اللحظة التي أخبرونا فيها أن مدينة حلبجة، في شمالي العراق، قُصفتْ بالكيماوي أثناء حكم صدام حسين للعراق، كنت صغيرة وقتذاك. تاريخ مفجع، يعاد جزء منه في مدينتنا الصغيرة، توقيتٌ لا ينطق ولا يصمت عن آلام الضحايا، في سري كانيه تختلف الملامح المحروقة عن ملامح ضحايا "رائحة التفاح"، الذين ظلت هيئاتهم على حالها. وحده الموتُ مرآتُهم.

حين كنت أرى الجمهور يتفاعل معي خلال الحفلات التي أحييتُها كمغنية سوبرانو في كل من إقليم كردستان العراق ودمشق وتركيا وروجافا، وغيرها من الأماكن، أسيرُ بالجميع بصوتي إلى كرَبٍ يُسقطُنا وحبّ ينهض بنا، وهدوءٍ يجمعنا على وسادة الطمأنينة. الموسيقى، أحياناً، تصنع من الأحلام واقعاً... والعكسُ كذلك. منذ اليوم، سألحّ بأغاني الحرية حتى تعود أراضينا وبيوتنا المنهوبة لأهلها وسنّتها المشروعة، سأغني بلغاتٍ ومقاماتٍ شتى... للسلام، لأنها في خطانا وهوائنا، وحبال غسيلنا التي تحاول الوحوش شنقَ أحلامنا بها... من غير جدوى.

حين أتحدث لزوجي عن بيتنا في منامي، تسألني جيا: هل رأيتِ دبّي الأبيض في منامك؟ هل هو على حاله؟ في تلك الأثناء، أتمنى لو أملك قوة سحرية، فأجلبَ دبَّها الأبيض، ليتلاعبا، حتى لو كان للحظات.

الآن، أبصرُ مدننا المحررة، أرى الناس مشغولين بترتيب أثاث بيوتهم الجديدة، أبصرُ في داخلي مخيم (واشوكاني) يضيق ازدحاماً بالسيارات التي تقلّ النازحين إلى ديارهم، أشعر بروحي وهي تغني وتبكي... فرحى بالرجوع، سيضاءُ نهارنا في هذا الغور اللانهائي.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم