الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"دحرجة الغبار"رقصٌ صوفيٌّ في سراديب مجتمع ذكوري

نسرين بلوط
"دحرجة الغبار"رقصٌ صوفيٌّ في سراديب مجتمع ذكوري
"دحرجة الغبار"رقصٌ صوفيٌّ في سراديب مجتمع ذكوري
A+ A-

قال الكاتب جورج دوهامل إنه لم يعرف من القصص إلا نوعين، ذلك الذي ينسينا الحياة، وذلك الذي يشرحها لنا. وهذا فعلاً ما يرتكز عليه الكثير من الكتاب الحديثين كما فعلت أقلام من سبقهم من الكتّاب الكلاسيكيين، الذين شاؤوا أن لا يحيدوا عن اتّباع "خارطة" هذين الخطّين.

فنلاحظ في رواية "دحرجة الغبار" للكاتبة السعودية سلام عبد العزيز تكريس معاناة المرأة السعودية خاصة والعربية عامة فيها، إذ تغصّ بانكسارٍ أخرس بحشرجات وتشنّجات الوجع، والالتفاف الكئيب حول شخص المرأة ككائنٍ هزيل الوجود، لا كيان لإيقاعه ولا صدى لمشاعره، يشيع الهذر عند ذكرها، وتطويها عطفة التهميش، ويعزو المجتمع إهمالها لقلّة استيعابها وعدم قدرتها على الإتيان بما يقدم عليه الرجل. وهي في روايتها "تشرح" متماهلة، مسهبة في السرد من غير طائل في الكثير من مفاصل الرواية، ما يرشح عن ترسّبات المجتمع ومعتقداته وتأويلاته للنساء.

"أتت من بعيد؛ من مدينةٍ لا تُنجب سوى الرمل وغياب الضوء. استعارت قوارب ورقية للنجاة من زوجٍ مدمن؛ أوشك الذئب الأعمى في داخله أن يمسّ شرارات قلبها، فقتلته... وهربت. اختبأت في أحقر حيٍّ سكني، تشيع في أزقته الشجارات والطعن بالسكاكين، وتتهاوى الخطوط الفاصلة بين الحلال والحرام، فغاصت في الوحل، وأقبلت عليها أمواج الحياة جارفة: الحافلة... قلوب الغرباء الرحبة... السوق... حكايا الشارع وبسطاء الناس، والشيخ يوسف... قدرها الذي جاء في الزمن الضائع. قال لها: «لا تسيري خلفي، كوني بجانبي»، ثم سارا جنباً إلى جنب، في طريقٍ محفوفةٍ بالموت".

كلماتٌ تجزلُ الاختصار في الرواية، وتتحوّل من معاناةٍ لحقيقة واقعة، البطلةُ "قبس" تقتلُ زوجها بعد أن تحمّلت غيّه لسنواتٍ طويلة أنجبت منه خلالها ولدين، بعد محاولاتٍ متكرّرة منه أن يزلَّ قدمها في درب الدعارة، فأبت وتشبّثت بمبادئها، ولكنّها لم تستطع أن تتحمّل مشهد رؤيته مع رجلٍ في سريرٍ واحد في منزلها، يمارسان الشذوذ الجنسي في الغرفة الأخرى على مقربةٍ من غرفة طفليها، ويتمدّدان منهكين، غارقين في النوم بإثم المعصية التي تشرئب لها الأعناق، فترتكب جريمة قتلٍ في حقّه وحقّ شريكه، حيث تسكبُ البنزين وتضرمُ النيران في المنزل، كأنّها تفرج عن غلِّ يأسها وتدهورها النفسي الحانق، وتخطو بأقدامٍ ثكلى في الطريق، وتقودها قدماها إلى منزل أخيها لتترك ولديها على بابه صامتة مخضلة باليأس مروّعة بالبؤس، وتستقلّ القطار هائمةً في دنيا الله الواسعة.

تلتقي في القرية التي انتقلت إليها وحوشاً بشرية تتشابه حدّ الكفر في الشهوة والضراوة التي أبصرتها في منزل زوجها، ورغم استضافة امرأة طيّبة لها في منزلها، إلا أنّ ولدها يحاول أن يعتدي عليها فتهرب بعد أن يقتله عامل هنديٌّ لديه، وهو يدفعه بعيداً عنها ذوداً عن شرفها.

تضعها الصدف في درب شيخٍ بار، تروي له قصتها خائرة الروح، مُنهكة الوجدان، تكادُ تتدحرجُ من جديد في دربِ الجنون. يشفق عليها ويمنحها منزل أخيه الغائب لتقيم فيه، يحاول أن يدرأ الشرّ عنها ولكنّ شكوى إحداهن للشرطة تضع عنقها تحت مقصلة الإعدام ويتزوّجها البار وينجب منها طفلة، في السنة التي قضتها في السجن قبل أن ينفّذ فيها الحكم، فتفيض روحها آمنة ساكنة مطمئنّة، وقد أوت لرحمة ربّها باستسلامٍ مطبق.

في الرواية حلٌّ تلجأ إليه الكاتبة كمسكّنٍ للجروح الثخينة التي تعاني منها المرأة، فتسنّ مبدأ الصوفية والتقرّب إلى الله صومعة الخلاص والطمأنينة، وتجتهد في تعليل المسبّبات وتصوير المناجاة التي تصنع المعجزات.

بعض التصاعد السردي يتأرجح دائخاً في عنق الحبكة، حيث تفاجئنا الكاتبة بصدفٍ غريبة في سياق الرواية لا تحدث حتى في الأفلام السينمائية، حين تلتقي قبس صدفة وهي تئمُّ بيتَ الله الحرام بأهل زوجها المقتول وابنتها، وتتحدث إلى طفلتها قبل أن تقع عينُ حماتها عليها فتهرول لتخبر الشرطة ولكنّها تختفي قبل أن يعثر عليها أحد، وقد تنسى أن تذكر مصير ولديها في بداية الرواية ثمّ تشرح لاحقاً في منتصفها بأنّها تركتهما عند باب أخيها.

مأساة المرأة تقدّمها سلام عبد العزيز في قالبٍ متجهِّمٍ من الاستسلام، الاستسلام لخطر القتل وللمصير ولحفنة الموت الأخير الذي يرصدها بعد أن تعثر على الحبِّ الحقيقي في حياتها، حب الله وحب الرجل البار الذي خبّأها وأنقذها ثم تزوّجها وهي تشرف على لفظ أنفاسها الأخيرة.

سلام عبد العزيز كاتبة جريئة رغم التعتيم المقصود على الكثير من المهمّشات السائدة في مجتمعها، وقد نجحت في تقمّص ثوب المعاناة، لتسربل القارئ معها في رحلةٍ مخضّبةٍ بالحنين والدمع والتراجيديا الدامية، وتعثر على قشّة أملٍ في رمالٍ متحرّكةٍ من تحت قدمي بطلتها، وهي صوفية الروح والقلب والنفس معاً، متسربلة ربّما بالتابوات الطائلة التي تعترض سبيل الحلول الثائرة من أجل حرية المرأة، حيث تنقصها الجرأة اللازمة، فتجد في طريق الإيمان المخلّص الأخير.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم