السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

البلد في حلم أبيك

مازن حنّا عبّود
البلد في حلم أبيك
البلد في حلم أبيك
A+ A-

البارحة يا ولدي خلدتُ إلى النوم. نمت نوماً عميقاً، فحلمت ببلد يشبهنا، ففرحت. والتهم البلد أشباه البلد. وهجم الجراد، فالتهم أخضره وأطعم الناس. فصارت الناس توقّر الجراد وتدلّه على حدائق البيوت المحيطة، حتى يبس كلّ شيء ومضى الجراد. فاكتشفت الناس اليباس وانتفضت.

ثمّ شاهدت قلاعاً على تلال تُطلّ على شوارع يتجمهر فيها أناس. قلاع يحيط بها جنود. وقصور يغفو فيها النعاس. كانت الناس تتضارب مع الناس، والشوارع تثور على الشوارع. الكلّ كان يتّهم الكلّ. والجوع والعِوز والغضب تجول في الشوارع. فقد استفاق الناس، لكن بعد طول سُبات. استفاقوا كي يأكلوا، فما وجدوا شيئاً يأكلوه. فالجراد قد التهم المؤونة.

وعاينت مسلحين يواكبون المقتدرين. وساسة يجولون بتخفٍّ أو بحمايات في الأزقة والشوارع، محاولين الاستثمار. وما كانوا يجرؤون على أن ينظروا في عيون من استفاقوا. بل كانوا يرفدون من زال نائماً بحبوب التنويم. كانت الغربة تزداد. فالناس بدأت تتغرب في أوطانها. وما بين الناس والقلاع أموال مفقودة وأحلام مهدورة. أموال تكدّست، فصارت تلالاً بُنيت عليها القلاع. كانت الفوارق بين أهل الكهوف من جهة وسكان القلاع من جهة أخرى كبيرة وعظيمة. فصارت الشوارع غير آمنة. بلبلة أصابت تلك البلاد. فما عدتَ تعرف الصحيح من المغلوط من الأخبار. الأكيد أنّ الأمور كانت تتدهور.

قيل إنّ القلاع محصّنة وإنّ لا خوفَ عليها من الشوارع. فالشوارع تلتهم الشوارع. وخوف الناس من الناس كان يعزّز القلاع وسكان القلاع. وقضاء حاجات الناس جعل منهم ضرورة، في بلد تكثُر فيه الحاجات ويتعذّر الحصول عليها من دون أصنامِ وكهنةِ بعل.

صار البلد مقبرة الأحلام. صار مليئاً بالعظام. صار قبور المشروعات التي تتطلع إلى غد أفضل. وهو كان ساحة للديوك الصيّاحة التي كانت تتواجه وتتصارع على الدجاجات وعلى الزوايا والساحات. صارت الطوائف مقابر الأديان، والأديان مدافن الإيمان وتوق البشر إلى التحرّر. كل شيء تسخّف. كل شيء تسطّح هناك. شعر كثيرون بغربة وصاروا يبحثون عن وطن لا يجدونه. وطن يقيمون فيه. فتغرّبوا وصارت أوطانهم تقيم فيهم.

وجدتُ أهل القلاع يا بنيّ في حالة إنكار لتمرّد الرعايا. وحدهم ما فكّروا بهجرة. ما فكّروا إلا بنقل أموالهم. فعباد البلد والبلد مصادر الأرزاق. وحدهم كانوا يعوّلون على ذاكرة الناس القصيرة وتوقهم إلى المصلحة المباشرة وحاجاتهم لهم.

كانت الناس تصرخ في الشوارع بحثاً عن أموالها وثرواتها المجمّدة. صارت تبحث عمّا تأكله. انتفضت تبحث عن حاضرها المرهون ومستقبلها المرصود. فغضبت ومضت تبحث عن أضاحٍ. فما أصابها لم يكن بالقليل. اكتشفت أنها قد سلّمت الوهم رقابها. أدمنت عليه، استهلكته، ضرسته. ولمّا أُسقط بفعل الضوء، تعرّى البشر أمام الحقيقة يا ولدي. لم يصدّقوا ما جرى بدايةـ فداهمهم الواقع. غضبوا وثاروا. والغضب يولّد غضباً، والإحباط يُخرج إحباطاً. لأهل القلاع صبر ودراية في الاستثمار، حتى في غضب الناس، والغضب نفايات قد يتحوّل نفاياتٍ يُعاد تدويرها لتعزيز التلال المتقابلة. فراح نواطير القلاع يطلّون من الشرفات على الساحات ويتعلّلون بعلل الخطايا. وراحت القلاع تواجه وتتقاذف التهم والشتائم. فالواضح انهم اتفقوا على الناس واختلفوا على كل عمل مفيد. تلال تتصارع. وكل تلة كانت تدعو شارعها إلى اجتياح التلة الموازية لأنها السبب في تعاسته. غير أنّ القلاع كانت جميعها تتصل بشبكة أنفاق ما تحت الأرض. والكل غنى، وكان للكل يغني. وأغانيهم ما كانت تريح. إلا أنني في وسط كل هذا وجدت قلة تتضافر وتعمل وتحب وتتأمل أن يكون ما جرى رسالة تعيد تكوين مدينة جديدة ترتكز على الوهم لا على الواقع. فما جرى كان ضرورياً كي تتخلّص الناس من الصنميّة وتستعيد إنسانيتها وخياراتها وحريتها ورجاءها. كان أولئك ملح البلد المخفيّ الذي كان يلتمع في وسط كل هذا الهياج.

حلمي كان حلماً شباطيًّا من القرون الوسطى. كان كابوساً موجعاً، لكن ضروريًّا. فللكوارث مفاعيل تلزم. فهي تفهم الناس وتجعلهم يقبلون ما لايقبلونه. تسطّر لهم قواعد جديدة لحياة أكثر واقعية على تلك الناحية من الكوكب. فنصلي يا صغيري كي لا يصير الواقع مصيدة. فلنتعظ منه درساً وجسراً للعبور.

فالزمن على ما يبدو زمن عقاب وعودة إلى أرض لم نعرف كيف نحافظ عليها. مسكينة أرض كنعان مع كل مدائن الفينيقيين. مسكينة هي لأنها محكومة بجغرافية وتاريخ وموارد وآلهة ولعنات. مسكينة لأنها استسلمت لأقدارها وأصنامها. وها هي اليوم مدعوّة للتحرر.

استفقت من ذلك الحلم المزعج يا بنيّ عطشاناً وخائفاً. فسطوة الليل كانت كبيرة. شربت كوب ماء واستكنت. وقد قررت أن لا آكل بعد اليوم كثيراً قبيل استسلامي لمملكة النوم. فالتُخمة تعطّل السلامة. والنهم يقتل السلام. ومفتاح الوجود سلام.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم