الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

الحافية القدمين كانت ترقص في النار بين الملك والموسيقار

رامي زيدان
A+ A-

تمر بعد أيام الذكرى التسعون لميلاد الراقصة الشهيرة التي لُقّبت بـ"الفراشة". إنها زينب خليل إبرهيم محفوظ، المعروفة باسم سامية جمال (ولدت في العام 1924 وتوفيت في 1 كانون الأول، 1994). فما هي قصة هذه الراقصة التي لم تكن الابتسامة تفارق ثغرها، وكانت حياتها قبل الشهرة والمجد قناعاً للشقاء والمشقة؟


اشتهرت سامية جمال في أيام عزها في دور "الجنية" مع فريد الأطرش، و"الجارية" مع أنور وجدي. كان من يراها يظنّ أنها عاشت حياة عائلية مترفة، هادئة وأريستوقراطية، نظراً إلى جسدها الطاغي والهادئ والساحر كالتنويم المغناطيسي. لكن خلف اغواء الرقص الشرقي وحركاته، كان ثمة الانسانة المعذبة صاحبة الروح التي تنتقم من العذاب بالجسد والرقص وحب الحياة.
عاشت سامية جمال العذاب الأسري والاجتماعي قبل الرقص الشرقي والمجد والحب، وقبل أن يطلق عليها لقب "حافية القدمين" الذي اقتبس منه نزار قباني قصيدته الشهيرة التي غنّاها كاظم الساهر، وقبل أن يُطلق على أدائها تسمية "رقص الخيول"، وقبل أن تكون معشوقة الملوك ونجوم الشاشة والجمهور. بدأت من نقطة الفقر المدقع، وهي روت في أكثر من حديث عن شعورها الدائم بالجوع، وانتمائها إلى عائلة مشردة، انفصل فيها الأب عن الأم وتزوج امرأة أخرى، فلاقت سامية الذل على يد زوجة أبيها، ما حدا بها إلى الهرب مرتين، وخصوصاً عندما حاولوا تزويجها بالقوّة. كانت زوجة أبيها تعاملها كخادمة، لكن كان يعوّضها ويسعدها الاستماع إلى الراديو من المقاهي المنتشرة في المكان.
انتقلت سامية من بيت والدها إلى بيت أختها فاطمة في السيدة زينب، وهناك تأثرت بإنشاد المداحين والصوفيين، وكانت حجرتها تطل على قهوة بلدي، فصادف أن استمعت من مذياع المقهى إلى صوت فريد، وكان يغني "باحب من غير أمل وقلبي راضي وسعيد"، فأحبت الأغنية وعشقت الصوت من دون أن تراه، وكانت تلك اللحظة بداية لعلاقة مليئة بالأوهام والأحلام معه، علاقة هي في ذاتها سيناريو لفيلم لم يُكتب بعد.
كانت خطوتها الأولى مع فرقة بديعة مصابني (صانعة النجوم)، فعملت راقصة وشاركت في التابلوهات الراقصة، وحين اختارتها بديعة لتؤدي رقصة منفردة في احدى الحفلات تعثرت بسبب الكعب العالي فتعالت صيحات السكارى مستنكرة. تحكي سامية أنها كانت خائفة للغاية فجاءت الرقصة سيئة، ولم تستطع أن تتقدم خطوة واحدة على المسرح للتأدية، لأنها، على ما ذكرت، لم تر في الصالة سوى "ذئاب كاسرة" تلتهم نظراتهم جسدها، وتهمّ بافتراسها، فأعادتها بديعة الى مكانها. لكنها لم تستسلم بل ألحّت على بديعة لتمنحها فرصة أخرى للرقص أمام الجمهور ولكن من دون مدرب رقص فوافقت بديعة. هكذا غادرها ارتباكها في الليلة الثانية فخلعت حذاءها ورقصت عارية القدمين، بكل جوارحها، مما حدا بجمهور الصالة إلى التصفيق طويلاً للراقصة.
نجحت سامية واجتازت خطوتها الأولى لتكون نجمة بارزة في مصر والعالم العربي. شكلت مع تحية كاريوكا مدرستين مختلفتين في تعليم الرقص الشرقي وأدائه. وعلى رغم أن الاثنتين بدأتا في الفرقة نفسها، إلا أن كلاًّ منهما كان لها أسلوب مميز ومختلف في الرقص. كانت تحية تفضل الطابع القديم التقليدي للرقص الشرقي الذي أضافت إليه الكثير من التطوير. واشتهرت سامية جمال بالمزج بين الرقصين الشرقي والغربي، وضاعف براعتها في الرقص، جمالها الأسمر الهادئ، وروحها المرحة، وأناقتها، هي التي كانت تحرص على رشاقة جسدها. ثمّة من قال إن الراقصة البارعة هي التي تستطيع أن ترقص في متر مربّع فيسمّى أداؤها "رقصة الهوانم"، في حين أن "رقص الخيول" سمة أداء سامية جمال، إذ كانت تكتسح المسرح من أوله إلى آخره، كأنها تطير.


بين الملك والأمير
بقيت سامية أيقونة في مكان آخر، وتجلت شهرتها في علاقتها مع فريد الأطرش وقصتها مع الملك فاروق، وبين هذين الاسمين ضاع جوهر الرقص الشرقي لمصلحة الشائعات والحكايات. في هذا الإطار، تذكر سهير حلمي في كتابها "فاروق ظالماً ومظلوماً"، قائمة طويلة بنساء أطلقت عليهن تسمية "نساء فاروق" من بينهن: الأميرة مهوش طوسون، فاطمة طوسون، ليليان كوهين، الممثلة كاميليا، الراقصة سامية جمال، الأميرة باتريشيا، المغنية الفرنسية آني بيريه، ناهد رشاد، ميمي ميدرت، وهيلين موصيري زوجة ولي عهد إحدى الدول الأوروبية. من بين هذه الأسماء تبدو سامية جمال الأكثر شهرة والتباساً في علاقتها بالملك، فهي التي نفت هذه العلاقة خلال مقابلة تلفزيونية، لكن معظم الكتب تصر على تأكيدها. يذكر الكاتب الراحل مصطفى أمين في كتابه "ليالي فاروق" بعنوان "ملكة لليلة واحدة"، أن سامية جمال أمضت ليلة في غرفة الملك واستيقظت فلم تجده بجوارها إذ اختفى من دون أن يودعها. بسبب حبها له قطعت علاقتها بالفنان فريد الأطرش، حبيبها الأول.
يقال إن الملك فاروق لم يكن يحب سامية، بل لم يكن حتى يستلطفها وكان يطلق عليها أمام حاشيته اسم "سمجة جمال"، لكن الغيرة التي اشتهر بها تجاه الجميلات جعلته يختارها لتكون الراقصة الرسمية للقصر الملكي، لا لشيء إلا لمجرد الشعور بالانتصار على فريد الأطرش! هذا جانب من الحكاية أو المسلسل الذي لا ينتهي ويشبه في جوهره قصص "ألف ليلة وليلة". ذات مرة سألت الكاتبة إيريس نظمي فريد الأطرش: هل أحببت سامية جمال؟ فأجاب: نعم. تابعت: ولماذا لم تتزوجها؟ فردّ: كنت أغار عليها من الملك! هو صراع الملك والأمير مطرب الوحشة الأريستوقراطي، على الراقصة الفلاحية الآتية من الشقاء.
كان اللقاء الأول بين فريد وسامية في كازينو بديعة حيث جلست تتأمل صورته المنشورة في إحدى المجلات وكان يجلس معها الموسيقي أحمد الشريف وابنه الذي وجدها تطيل النظر في إحدى الصور فسألها: "صورة مين دي؟ لأه مش حقولّك. وإذا بيد توضع على كتفها وشخص يقول: "أنا أقولك... دي تبقى صورتي أنا!". في ذلك اللقاء كما روت هي بنفسها للصحافي محمد السيد شوشة في كتاب أصدره عن قصة حياتها بعنوان "سامية جمال الراقصة الحافية"، قالت إن فريد غازلها وأبدى إعجابه بها وأعطاها رقم هاتفه. وحين اتصلت به وإذا به يجيب ويقول إنه غير موجود مما اضطرها لأن تطارده حتى رد عليها وتوطدت الأواصر بينهما، هي التي كان غاية مناها أن ترى فريد لمجرد الرؤية عندما كانت في قريتها.


على الشاشة
بعدما دخلت سامية جمال مجال الرقص والفن تطلعت نحو السينما، وكان أول فيلم ظهرت فيه هو الفيلم الأول في حياة فريد الأطرش وشقيقته أسمهان، "انتصار الشباب"، وفيه استعان مصمم الرقص إيدي فارس بسامية جمال لتكون ضمن مجموعة الراقصات في استعراض "ليالي الأنس في فيينا" وظلت سامية طوال فترة التصوير تطارد فريد لكنه كان يتهرب منها. فقد كان، على ما يروي الصحافي حسين عثمان، يعيش قصة حب مع فتاة من عائلة أريستوقراطية ومن اللواتي كان يطلق عليهن "بنات الذوات" وكانت تغار عليه. طلبت منه أن يتزوجها لكنه اعتذر، فجعلته يهجر معظم النساء اللواتي يطاردنه، ومن بينهن سامية جمال التي أخذت تتردد على مكاتب شركات السينما لتحظى بدور في أي فيلم، ولكن لم يكن من نصيبها سوى بعض أدوار الكومبارس في أفلام "ممنوع الحب" مع محمد عبد الوهاب، و"مسرح الحياة"، و"رصاصة في القلب".
غادرت سامية جمال الكومبارس للمرة الأولى لتؤدي رقصة منفردة فبدأت علاقتها بفريد في إحدى السهرات حين اختلف مع عشيقته بسببها وبسبب الغيرة، وكانت السهرة تلك نقطة بداية العلاقة بينهما. بدأت دعوات فريد التي يوجهها لسامية جمال لتناول الغداء إلى مائدته تتكرر كل يوم. على أن التعاون الفني بينهما بدأ عام 1946 في تكوين شركة لإنتاج الأفلام فأسند إليها دوراً في باكورة أعماله "حبيب العمر"، فصعد نجم فريد بأغانيه ونجحت سامية في الرقص، الأمر الذي دفع المطرب إلى إنتاج مزيد من الأفلام التي تشاركه هي بطولتها وكانت كلها أفلاماً استعراضية غنائية مثل "أحبك إنت"، و"عفريتة هانم"، و"ما تقولش لحد"، و"آخر كدبة" حتى كان آخر أفلامهما معاً "تعالى سلم" 1950.
غزت الراقصات الأفلام المصرية لأسباب كثيرة، منها ارتفاع عدد المشاهدين المراهقين والشيوخ والشبّان الذين وجدوا في الراقصات نوعاً من التعويض الوجداني والحسّي عن كبت مقيم وفرصة للبصبصة. فكانت هذه سمة من السمات الباعثة على الربح الوافر والآخذ في الإتّساع والإنتشار. هذا إلى جانب شهرة الملاهي بالراقصات، التي أصبحت حيزاً لتدافع عدد غير قليل من نساء الأحياء الشعبية إلى العمل راقصات، وخصوصاً الجميلات منهن واللواتي يتمتعن بمواهب ومفاتن قادرة على كسب رضا الناظرين المتلهفين، وذلك من خلال التمثيل وأداء الحركات المثيرة في المرابع والكباريهات. وحين أشرف أحد الملاهي الليلية في القاهرة على الإفلاس، قرر صاحبه أن تظهر سامية جمال في علبته الليليّة كفنانة ضيفة ليلة الإثنين. وهي الليلة الهادئة تقليدياً. وفي تلك الليلة أمّ الملهى طوفان من الزبائن الكبار والصغار. ومنذ ذلك الحين أصبحت كل ليلة اثنين موعداً ثابتاً وحيزاً متعاظم التفاعل. ولمّا راحت العلبة الليلية تعج بالحاضرين صرّح المالك بأنّه يفكر في غلقها باقي أيام الأسبوع.


لماذا لم يتزوجا؟
ثمة سؤال دائم في الوسط الفني: لماذا لم يتزوج فريد سامية؟ كانت سامية مسيطرة على الصحافة الفنية في نهايات الأربعينات وخصوصاً أن كل الظواهر كانت تؤكد أنهما لا يفترقان البتة، حتى أن فريد الأطرش سافر في أواخر العام 1949 في جولة فنية لشمال أفريقيا واصطحب معه سامية، وبعد عودتهما كتب أحد الصحافيين مقالاً فيه أن فريد الأطرش رفض الزواج من سامية لأنه سليل عائلة كبيرة في جبل الدروز. بكت سامية يوم نشر هذا الكلام، وتقول "الشائعات" إن قلبها كان يميل نحو فريد الأطرش الذي أحبها ورفض أن يتزوجها، وبعدما يئست منه أرادت أن تنسى هذا الحب فتزوجت من مليونير أميركي اصطحبها معه إلى بلده أميركا، حيث عاشت عامين ونصف العام، ثم عادت إلى مصر بعد حصولها على الطلاق. عند رجوعها إلى مصر، كانت "ثورة يوليو" وقد سألتها مجلة "الكواكب" عن حقيقة علاقتها بالملك فاروق فأجابت: "سامحهم الله أولئك الذين يغرمون باختراع الروايات. كل ما في الأمر أنني رقصت مرة في قصر عابدين كأية فنانة تدعى إلى حفلات القصر، ويكفي أن تعلم كي تدرك مدى سعة خيال الناس أنني لم أسترع انتباه الملك في رقصتي. حتى إنني لم ألحظ أنه صفق لي ولو من باب التحية والتشجيع. لقد علمتني الحياة الواقعية في أميركا ألا أعبأ إلا بالحقائق. ولم يكن أمامي وقت لأمضيه في الرد والتكذيب، فاكتفيت بأن أقول سامح الله الجميع". لسامية أيضا قصتها الطويلة مع الدون جوان رشدي أباظة وقد تزوجت منه في اواخر الخمسينات.


رقصة القصيدة
آمنت سامية بأن الرقص علم ينبغي أن تدرسه على قواعده وأصوله، فاستعانت بمدرب الرقص في الفرقة ومصمم الرقصات إيزاك ديكسون، كذلك تعلمت رقص الصالونات مثل السامبا، الرومبا، الروك أندرول، الشارلستون، التانغو، والفالس، غير أنها لم تقتنع بهذا كله، وأرادت الاتجاه إلى رقص الباليه، فدرست هذا الفن على يد المدرّبة الأجنبيّة سونيا إيفانونا ومن ثم عادت إلى الرقص كراقصة أولى، تبهر الجمهور برقصاتها الشرقية والغربية، وأصبحت بعد ذلك راقصة متمكنة من فنها الشرقي والغربي، وتؤدي الرقص البلدي والفرعوني والهندي. كانت أول راقصة شرقية ترقص في أميركا، هي التي أعطت الرقص مذاقاً جديداً ودمجته بالرقص الغربي الأوروبي. أصبحت سامية جمال الراقصة الأولى، فبهرت الجمهور برقصة "النار" التي كانت تؤديها مرتدية بذلة حمراء في خطوات سريعة وهي تضرب بالدف، في وسط ديكور تندلع منه ألسنة النيران.
كانت صديقة تحية كاريوكا ومنافستها في الرقص، وقد شكلتا ثنائياً تاريخياً في هذا المجال، لكن سرّاً ما جعل المثقفين يميلون في كتاباتهم الى تحية التي احترفت الرقص الشرقي الأصيل وكانت ذات ميول يسارية. أما سامية فكانت تعيش حياة الحب أكثر. قلائل من الشعراء والمثقفين كتبوا عنها مقالات يوم رحيلها، ولم تدخل في النقاش الثقافي ولم تكن محور مقالات ثقافية.
من بين القلة التي كتبت شعراً في سامية جمال الشاعر المصري إبرهيم ناجي الذي عاش حياته باحثاً عن المرأة الملهمة التي تُخرج ما في داخله من قصائد، وكانت أبواب قلبه مفتوحة لملهماته ليلاً نهاراً وكن يتوافدن عليه كما تتوافد القصائد على أوراقه التي يكتبها لهنّ إعجاباً وعشقاً لجمالهن أو فنهن. وقد تعرف إلى سامية جمال التي طلبت منه أن يصفها فصاغ قصيدته "بالله ما لي وما لك"، يقول فيها:
يا من تمنيت شعراً/ يكون كفء جمالك
وليس في الكون شعر/ أراه كفئاً لذلك
عفو القوافي وعذراً/ إن قصرت في سؤالك
حاولت وصفك لما/ رأيت نور هلالك
فحررت ما قلت شيئاً/ يليق باستقبالك
يا فتنة فوق ظني/ بالله ما لي وما لك".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم