السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

كتاب - "نوكيا" لباسم سليمان: ملحمة الأحلام الضائعة

جينا سلطان
A+ A-

يحرر الكاتب والشاعر السوري باسم سليمان شخوص روايته "نوكيا" من سلطة الراوي، ويدفعها نحو التخلق الذاتي بعيدا من أي تدخل أو اقتحام لخصوصيتها، ما يتيح لها حركية انسيابية تخلّصها من مصيدة "أثر الفراشة" الواقعة تحت اسم الخطيئة الأولى. هذا التجاوز يدمج الراوي في نسغ التلقي، فيوسع مدى الرؤية التخيلية، ويخفف أعباء التنظير المجاني والإطالة السردية.


يتكئ سليمان على مقولة هولدرلن "الإنسان ربّ حين يحلم وشحاذ حين يفكر"، ليحتفظ بعذرية الأفكار، التي تتيح له تنقية الهوية، وتخليصها من رواسب الذاكرة المستعارة. يغدو الحلم جوهر التوازن، عند تخوم فرضية اليوتوبيا التي تنهيها الخطيئة ليقوم على خرابها الواقع. خطيئة الكتابة القائمة على ثالوث الفلسفة والتاريخ والاشتقاق الجذري، هي التي تبني مجد الأسطورة الشخصية للمؤلف. تتوزع الأنا على ثلاث شخصيات تقود ملحمة بلورة الذات: محمود الذي يتحمل وزر عقدة أوديب ويعكسها تحدياً لجمودية الحياة وضيق آفاقها، داني المجرد من الأحلام، المتسربل بعباءة أبيه، وباسم رجل الكلام والأفكار، والحالم بقابلية انعكاس الإنسان إلى سمكة. الثلاثة معاً يشكلون سرداً بشرياً يملأ ثقوب السؤال الأزلي: من أين وإلى أين؟
مع محمود تنمو الرواية ذاتيا بمناقشة أطروحة "الكتابة فوق الكتابة"؛ فالحياة لا تتطور إلا بقتل الأب، الذي يجسد رمزية الأضحية، القائمة باطنياً على مستويات الكراهية واستبدال الإنسان القديم. يشرع محمود في مخطوط الرواية، ثم يعتزل بعد أن يشترك مع عليا في بذر جنين، ليغدو بدوره أبا يجب إلغاؤه. ويرثه باسم ويتابع دوره من خلال فعل اغتصاب يتلبس توق التطهر، ويستتر بالتواطؤ باعتباره السرّ الأكبر للحياة، ما يجعل الطفل المرتقب مفرغاً من ذاكرة أوديب، ومهيأ لدفع شعلة بروميثيوس نحو ذرى متقدة. في المقابل يناط بداني الطريق السهل المقترن بترهل الزمن، حيث يهرم الأب ويموت فيرثه. لذلك ينكبّ بهوس على حف الأبواب الخشبية مكتسباً صفة الرقم المضاف إلى حيوات الآخرين وأحلامهم. تصاعد غبار الأبواب الخشبية، يبدو مناسباً لاستدعاء غبار التاريخ حين يخضع للتأويل، ليغدو التاريخ أبوابا تفتح وتغلق. يحمل تواري داني عن مسرح الرواية اسم تاريخ، يغلق بابه في الوطن ليفتح في كندا. أما تغيب محمود الغريق فيدغم بالخيانة، لأن الحقد المترافق سينتج مع الوقت نسياناً مترافقا مع الشيخوخة.
بين طيات المحاورات يناقش "الفرسان الثلاثة"، خيار المصير الإنساني وحتمية تماهيه مع ثقافة القطيع وغريزته؛ حيث يتخلص من منغصات التميز الفردي، ويقوم بعمله بإخلاص منقطع النظير، تاركا ملاحقة شؤون الحكم، وهذا مفهوم الجنة التي لا تنالها الخطيئة. فالجنة هي شكل من أشكال الوجود، يقوم كماله على التأقلم التام مع المكان والزمان، فتصبح الخطيئة هي الإحساس بالنقصان. هذا يقتضي عدم الالتفات إلى الأسئلة، ويترجَم روائياً بزواج باسم من عليا ببساطة من دون فلسفة أو تأمل.
تقوم أعمدة الرواية التي أرساها محمود، وأبحر في مياهها باسم، على التخييل الذي هو حصيلة تراكم أحلام اليقظة، ثم انحدارها كسيل يأخذ كل شيء في طريقه، ويعيد العمران إلى لحظته البدائية الأولى. بذلك يستبدل الخيال "جحيم الآخر" بواقع قائم على التخمين الذي سيستعير صفة المطهر. وهذا ما يكافئ سهولة استبدال الذاكرة الرقمية بأخرى ضمن مجال الشبكة العنكبوتية الافتراضية، التي لا تملك البداية والنهاية، بل هي تأرجح معلق في الحيادية المطلقة. ما يعني صلب المشاعر والأحاسيس على جدارية التذبذب الانفعالي الآني والمجاني، وتجريد العاطفة من نبلها وحقيقتها كبوصلة تجمع شظايا الإنسان وتحميه من التبعثر والغرق في النسيان.
ينجح عصر التكنولوجيا إلى حد كبير في تعطيل "أثر الفراشة"، باستخدام تقنية التصوير الرقمي: التقط واحذف دونما عواقب أو تبعات، فأفسح مجالا واسعا لتراكم الصور. في المقابل ينهض الافتراض المرعب في كون الصورة الأصلية الملتقطة مجمدة غير قابلة للتعديل في بعد مجهول، صورة كالنعجة "دولي" تُستنسَخ الى اللانهاية. ونلمح أثر الرعب الذي تقذفه هذه الفكرة في إلغاء باسم لعلاقته الجنسية الافتراضية مع لمياء، الأنثى التخيلية التي تكره الجوانب الواقعية في العلاقة الجسدية، وتكتفي بالكلمات المكتوبة والمنطوقة؛ كلمات ليس لها قدرة إلا على خلق سراب في لحظة الذروة. لذلك يغتصب باسم عليا، ويتبنى جنين محمود، بعد أن يخفي موته، كي لا تتحول عليا إلى أنثى مستبعدة، كذاكرة رقمية ملغاة. في المقابل يتمسك داني بصور الأصدقاء ليحمي ذاكرته في الغربة من غدر النسيان وقابلية الحذف الرقمي. ينتظر باسم ولادة طفله، مستغرقاً في قراءة قصة منشورة في جريدة "الثورة" بعنوان "عائلة سعيدة جداً" لباسم سليمان، حيث يستعرض مجددا الدرامية المتعلقة بالهوية الذاتية، من خلال نسغ حياتي مستمد من ألم الواقع الحالي، محققا مواجهة بين القصة والرواية. فاحتراق المبنى العام للدولة حيث هويات المواطنين، يعطي تثبيتا لفكرة الذاكرة الجديدة، واعادة تنصيبها كهوية مستقلة بإحداثيات مغايرة للأصلية. كذلك تفضي إعادة مسرحة المشهد، إلى تأسيس أسرة من بدايات مجهولة، تشكل بديلا من الأسرة المفتقدة. فالعاهرة الحسناء تتخلى عن الزوايا المعتمة والثياب المثيرة، والطفل الشريد الخائف يجد الحنان والطمأنينة.
يسقط سليمان عن روايته ضفتي البداية والنهاية، على رغم أن دانيال/البداية يصمد أمام أسطورية اسمه فيتغمدها في غربته، ومحمود/النهاية يستكين في تجذره ويذوب فيه، بينما يتهادى باسم في الوسط متخذا من اسمه أصداء التهكم الحزين. فرسان من هذا الزمان، يتقاسمون يأس البطولة في ملحمة الأحلام الضائعة، فيرشح الحزن من ثنايا الكلمات، التي تتهادى في إيقاع سريع رشيق.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم