الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

شهرزاد الغضب

محمد أبي سمرا
A+ A-

كيف نقرأ اليوم كتابات أنسي الحاج في زاويته الثابتة "كلمات كلمات كلمات" في "الملحق" الأسبوعي لـ"النهار" ما بين 1964 و1974؟ وهي جُمعت في ثلاثة أجزاء نُشرت في 1247 صفحة من الحجم الكبير لدى "دار النهار" العام 1987؟ هل هي شريط طويل، متقطع، من فن الكتابة الحرة، من اللحظات أو المتواليات الكتابية المتمردة على الأشكال المحددة للكتابة؟ أهي مزيج متدافع مفتوح لا يعبأ بأصناف الكتابة وحدودها، حتى بين النثر والشعر؟ قد يكون فيها من الشعر دفقه ونبرته الحاسمة، ومن النثر سعته ورحلته في أرجاء ظواهر الاجتماع والحياة اليومية، لكن من دون روايتها، والاستعاضة عن الرواية بالهجوم على العالم بحساسية شعرية، أو بمزاج شعري.


أحياناً يقول القارئ إن الاعترافات والشهادة والتعليق والمتابعات هي الغالبة على هذا المزيج الكتابي. فجأة يطالعه النقد والسجال الثقافي والفكري والسياسي، لكن من دون التزام أي من المعايير السائدة في النقد والسجال، كالعرض والمداورة، وإعادة الأفكار إلى مصادرها، تبويبها ومعارضتها بغيرها.


رجعي يعيش في الماضي
يفتتح أنسي الحاج "كلماته" في 17 أيار 1964، فيكتب في أعلى الصفحة: "أنا رجعي"، ثم يضع نقطة، ويعود إلى أول السطر الثاني، ليكتب: "أنا: شخص يعيش في عصر الشعارات المرعبة التي تخجل كلها بالرجعية". ثم يقفز إلى أول السطر الثالث: "شعارات التقدمية والطليعة والتحرر". لا يعرض هذه الشعارات، لا يناقشها، بل يكتب متابعاً: "كل فنان لا ينضوي تحت هذه الشعارات يسقط من الشجرة". قد تكون الشجرة هنا في هذا السياق كناية في غير محلها، ففعل يسقط وحده يُتِمّ المعنى ويحسمه حسماً قاطعاً يتلاءم مع لغة الشعارات "التقدمية" الساحقة التي يشهد الكاتب بأن "الرجل الذي لا يزعمها، محروم حتى الفوز بامرأة!". هنا يتخذ أسلوب أنسي الحاج أبهى صوره، في استدعائه المفاجئ لغير المتوقع.
ثم بلا مقدمات يكتب: "أكره التقدم وما صنعه، وأكره التمدن لأنه ليس غير إباحة الأسرار". في جملة واحدة صغيرة حاسمة، يختصر مقولة بحثية كاملة في علم اجتماع التمدن والمدينة. وذلك فيما هو يشاكس التقدمية الرائجة بوصفها موضة العصر ودرته، آنذاك، ويعاكسها باعترافه الحاسم بأنه رجعي. المشاكسة والمعاكسة هاتان لا تحتاجان إلى حجّةٍ ولا برهان ولا شرح، بل تتجنبان وترفضان الخوض في الحجج والبراهين والشروح، لصالح الاكتفاء الصريح بإعلان الكراهية الذاتية أو الشخصية للتقدم، من دون توضيح. هو على المنوال نفسه يعترف: "أعيش في الماضي". وبعد تعداده رموز الماضي الغابرة، كـ"القلعة، والحصن، والجزيرة الغامضة"، يكتب: "أيام كان الناس رومنتيكيين قبل أن يجيء شعراء الرومنتيكية". هذه جملة تكاد تختزن مقولة كاملة في النقد الأدبي وفي علم اجتماع الأدب والجماليات. وكان أنسي الحاج قد سبق الروائي التشيكي – الفرنسي ميلان كونديرا في كراهيته التمدن وسلطة الدعاية والإعلان والشعار والكيتش التي أفرغت الكائن الانساني من كينونته الذاتية الخاصة، ورمته في صحراء الاستهلاك السريع، كائناً مفرغاً خاوياً بلا خصائص. كتب كونديرا متحسّراً على الأيام الخوالي في زمن البطء القديم، حينما كان الشعراء الجوالون يتنقلون على الدروب، وينامون تحت النجوم.


كخاطر يسكن الأبدية
أجوبة كثيرة، تأويلية واحتمالية سريعة، عن السؤال الآتي: لماذا يقول أنسي الحاج إنه رجعي، يكره التقدم والتمدن، ويعيش في الماضي؟ وهل حقاً هو كذلك؟ الأجوبة هذه قد تشكل خيطاً من الخيوط التي تخترق كتاباته في "كلمات".
هناك أولاً الشعر والمثال الشعري الضاربة ينابيعهما في الطفولة بوصفها خزان الرؤية الشعرية للعالم. دليله الذي لا رادّ له في هذا الأمر، هو صوت فيروز الذي كثيراً ما كتب أن صوتها "نعمة"، ويردّ العالم إلى براءته الأولى، لكن معترفاً في المقابل بأن شعره غالباً ما يعاكس البراءة، بوصفه شعر اللعنة.
هناك ثانياً صوت فيروز نفسه الذي جعله أنسي الحاج حجة شعرية، وكرَّس النظرة إليه كطاقة شعرية، فتلقف الوسط الثقافي هذه النظرة واستلهمها، فدخلت فيروز الصوت والدور أيقونة شعرية في كثير من قصائد الشعراء. الحق أن صوت فيروز ليس طالعاً من الحنين، بل هو الحنين الشعري مجسَّداً في صوت يأتي حياً من الماضي ومن جهات الزمن الأخرى، ليوقف الزمن.
هناك ثالثاً لبنان، لبنان الفكرة والمثال الشعري الذي قد يكون حاضراً حضور الطيف الدائم خلف معظم المتابعات والاعترافات في "كلمات". لبنان المثال الشعري هذا، مقيم غالباً في الماضي المتخيل، في تخييل الماضي، وفي المستقبل الآتي من الأحلام، من أحلام اليقظة السعيدة، لكن ليس من الحاضر قطعاً. الحاضر اللبناني في كتابات أنسي الحاج، غالباً ما يحضر حضور التمدن الذي افتتح "كلماته" بإعلانه الكراهية له. لذا فإن لبنان المجتمع والدولة والإدارة والحكم لا يحضر في ستينات مؤسس "الملحق"، إلا بوصفه أقرب إلى مأساة أو تراجيديا لا أمل في خروجه وخلاصه منها.
الدليل الحاسم هو ختام "كلمات" في 14 آب 1974. "عندما كنا صغاراً كان الصيف عطلة. كان البحر وكان الجبل، لكن البحر كان غالباً يكون رصيف الجبل، فالجبل هو حلم الصيف (...) وكان لبنان صغيراً معنا. (...) لا أحد يتكلم فيه عن الحرية غير خطاطي الشعارات ولا أحد يتكلم عن الطمأنينة غير أدباء يوم الأحد. فالحرية كانت ملء الفرح وملء الحزن (...) وكانت السلطة موجودة بضآلة ورفق (...) وابعد من السلطة كنا دائماً نحسّ بلا وعينا إحساساً ايجابياً عارماً وخلاّقاً بلبنان، كأننا كنا نحدس (...) أن لبنان رقعة روحية وسهل نفسي وجبل أخلاقي (...) متى كان ذلك؟ متى؟ قبل عشر سنين، قبل مئة سنة. وأين أين؟ أين صار ذلك البلد الذي كنا نقطع فيه مسافة البرق فنصبح في الجنة؟".
"كان اسمه لبنان. لم يكن أحد يخاف من لبنان". ألا تحضر فيروز هنا، وكذلك ميشال شيحا ولبنانه المتوسطي الذي نعاه في شذراته التأملية الصحافية، لكن الشعرية، في مطالع الخمسينات، لينعاه أنسي الحاج في أواسط السبعينات: "أبكيك يا وطني لأنك تبكي (...) ولأن زمان القسوة طال عليك (...) لأنه يعزّ عليك أن يزورك الجميع ولا تزور نفسك، وأن تأخذ البشاعة حريتها فيك (...) أبكيك لأني أبكي أعماراً لنا جفلوها في بدايتها (...) فيوم كنا صغاراً (...) كنا نسكنك لا كمن يسكن بلداً بل كخاطرٍ يسكن الأبدية".
هناك رابعاً وأخيراً، بناءً على ما تقدم، ما يستبطنه الكثير من "كلمات" أنسي الحاج، وخصوصاً تلك الأخيرة: بروز الطفرة الجماهيرية الصاخبة وفوضاها الاجتماعية والعمرانية المدينية في لبنان الربع الثالث من القرن العشرين، وحلول الأرياف في المدن. قبل ذلك كانت البنى والأطر الاجتماعية والسياسية اللبنانية، لا تزال قادرة على استيعاب الحراك والتناقضات الاجتماعية والسياسية، إدارتها وتدبيرها، في إطار من المصالحات والتسويات العائلية والبلدية. فالمجتمع اللبناني، كان لا يزال بلدياً وأهلياً، وكذلك العائلات السياسية التي كان في وسعها إدارة شؤون ذلك المجتمع البلدي والأهلي في مؤسسات الدولة والحكم. هذا ما بدأ يتأكل تدريجاً ويتمزق تحت ضغط الطفرات الجماهيرية التي عجزت الأطر السياسية والاجتماعية القديمة عن تنظيم شؤونها كافة، فأخذت هذه الجماهير المتذررة والمسيّبة تنظّم حياتها على هواها وتدير شؤونها ذاتياً، وصولاً إلى الحرب الأهلية. هكذا لم يبقَ من لبنان سوى "حرية البشاعة" في لغة أنسي الحاج. اما الحرية الأخرى، الحرية في معناها الذاتي والوجودي والشعري، فشأن آخر، ولبنانها لبنان آخر: "خاطر يسكن الأبدية".


الحرية والتباساتها
خيط آخر متصل بمسألة الحرية، يخترق "كلمات". إنه الغضب المشاكس المتمرد متلوّناً في مزاج الكاتب وأسلوبه الكتابي. ما هو مصدر هذا الغضب الذي حمل أحدهم على وصف أنسي الحاج بـ"بائع الغضب الأحدي"، ويمكن القول ايضاً إنه شهرزاد الغضب في الستينات اللبنانية، لكن من دون حكاية ولا رواية، لأنه ينبعث من حساسية شعرية؟
لننطلق من المقولة العامة الشائعة التي تعتبر الستينات اللبنانية والنصف الأول من السبعينات، حقبة "أيام العز" أو "العصر الذهبي" للتفتح الثقافي والفني والاجتماعي والإزدهار الاقتصادي. هناك من أطلق على تلك الحقبة اللبنانية تسمية "النهضة الثانية"، عوداً على بدء "النهضة الثقافية والأدبية العربية" الأولى في مصر ولبنان في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين. معروف أن نهضة التعليم وتوسع قاعدته طوال النصف الأول من القرن العشرين، وكذلك التحرر الاجتماعي والحريات السياسية، كانت العوامل البارزة في التفتح والإزدهار في لبنان الستينات، ومن علامات تميزه عن محيطه العربي الذي سيطرت على مجتمعاته ودوله إيديولوجيا عروبية قوموية شمولية، وأنظمة عسكرية وديكتاتورية.
أنسي الحاج في مشاكسته وغضبه، إبن بارّ للتفتح والإزدهار والتميز والحريات اللبنانية التي بلغت ذروتها في الستينات التي سال حبر كثير في مديحها بوصفها درة القرن العشرين الثقافية في لبنان. فالاسترسال في المشاكسة والغضب وفي أعلانهما في دوائر العلانية العامة الثقافية والصحافية، شرطهما الضروري هو الحرية. لا بل إن هذه الدوائر الناشئة والمزدهرة بقوة في الستينات اللبنانية، جعلت من التعبير الحر عن الأفكار والمشاعر والأهواء المختلفة، علّة وجودها وتمايزها عن اختناق الحريات وخنقها وسحقها في المجتمعات والدول المجاورة التي حمل غيابُ الحريات فيها وتغييبها، اللبنانيين، وخصوصاً المثقفين والكتاب الليبيراليين وغير العروبيين، على اعتبار الحرية ولبنان حقيقة واحدة لا تنفصم عراها. هناك من يقول إن عبادة الحرية حتى السكر والتغني الفولكلوري بها في أوساط ثقافية لبنانية، أفقدها الكثير من مضامينها لأن تلك الأوساط اعتبرتها منجزة سلفاً في لبنان منذ كان، وحازها اللبنانيون وبلدهم سلفاً. كأنها في هذا، خارج التاريخ وخارج نطاق الفعل والممارسة التاريخية والاجتماعية، أي أقرب إلى صنمٍ أو خرافة أو اسطورة. والحق أن الحرية اللبنانية ليست على هذه الصورة، أي ليست سلفية وصنمية ولا وهمية، بل هي قائمة وموجودة، لكن الوعي التاريخي والاجتماعي بها لدى اللبنانيين ضعيف.


الغضب الجمالي
هذه الحرية اللبنانية كان أنسي الحاج إبنها المشاكس والغاضب عليها ومنها، لأنها فاقدة مضامينها الذاتية والفردية، واقرب إلى شعيرة اجتماعية في ممارستها. في مواجهة هذا النوع من الحرية الحسيرة والعسراء، والشبيهة بالكيتش، أراد صاحب "لن" اكتشاف حرية داخلية، سيزيفية ودونكيشوتية، تحرّر الوعي واللاوعي. حرية زئبقية مشاكسة، ومستمدة من مثال شعري وجمالي فريد وشريد، أراد صاحبه استدخاله غريزياً في نثر الحياة اليومية ولحظاتها العابرة.
من التصادم بين هذا المثال الغريزي، الشعري الجمالي، وإرادة توطينه المستحيلة في تفاصيل الحياة والعلاقات الإنسانية اليومية، وفي النظر إلى لبنان المجتمع والدولة والحياة السياسية، وبين الواقع الاجتماعي والسياسي وقيمه السائدة في لبنان الستينات، ولد الغضب الشعري والجمالي في النثر الأسبوعي لـ"كلمات" أنسي الحاج الذي أقحم الشعر والرؤيا الشعرية في نظرته إلى واقع العلاقات الاجتماعية والسياسية اللبنانية، وفي كتابته النثرية الأسبوعية المتحررة من منطق النثر لصالح منطق، بل لا منطق الغريزة. ربما كان صاحب "الرأس المقطوع" يدرك وأمثاله من ابناء جيله من أصحاب تلك الرؤية، أنهم صنيعة التفتح الثقافي والاجتماعي اللبناني، قدر ما هم أيضاً أبناؤه غير الأبرار، المشاكسون المتمردون والغاضبون. فالمشاكسة والتمرد والغضب ما كان لها أن تنشأ وتنمو، لولا ظهور مسرح جديد للحياة الاجتماعية والثقافية اللبنانية الناشطة في بيروت الستينات. وهو مسرح له سوابقه في عاصمة لبنان الكبير وحواضر جبل لبنان، منذ 1920، وفي حقبة ما بين الحربين العالميتين، وصولاً إلى الخمسينات.
أنسي الحاج مع كوكبة من أمثاله ومجايليه، ساهموا، شعراء وكتّاباً صحافيين ومنشّطين ثقافيين، في نشأة ذلك المسرح للحياة الثقافية البيروتية، وفي توسيع رقعته وفضائه. فـ"الملحق" النهاري، الثقافي الأسبوعي، الذي أسسه الحاج وترأس تحريره، كان مساحة أساسية و"نجماً" جاذباً في فضاءات ذلك المسرح الذي شكلت الصحافة الثقافية الناشئة والمزدهرة قطباً فاعلاً فيه، ومرآة حية لنشاطاته المختلفة المتفاعلة.


مخزون الغصب والتمرد
المزاج الكتابي النثري الغاضب والساخط الذي لم يتوقف صاحب "ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة" عن بثّه أسبوعياً في "كلمات"، كان وليد نزوع المثال الشعري والجمالي إلى التصادم مع الواقع لتحقيق تفرّد ذاتي مشاكس مطلبه حرية لم يستهلكها الكيتش الاجتماعي السائد.
الإطار العام لنشوء الذاتية والفردية، هو الحراك والتحولات الاجتماعية اللبنانية التي أتاحت لفئات وبيئات اتسع إقبالها على التعليم والمدينة ونمط الحياة الحديثة، منذ عشرينات القرن العشرين، أن ترتقي وتتفتح على الثقافة والفنون، وبواسطة الثقافة والفنون والصحافة، بعدما صارت دوائر لعلانية عامة جديدة وغير مسبوقة. في هذه الدوائر نشأ مثال شخصي، فردي وذاتي، في النظر إلى النفس والعالم والعيش والعلاقات والقيم والإجتماع والسياسة والوطن والوطنية، وصولاً إلى الأهواء والرغبات والجسم والتعبير عنها في الحياة العامة والخاصة، وفي المجالات الثقافية والفنية. لكن المثال الفردي الجديد الناشئ في المجتمع اللبناني ولد مرضوضاً وغير مكتمل وظل مثلوماً، وتعرض لكبح السلطات والمؤسسات الإجتماعية والسياسية التقليدية وقيمها الموروثة.
في الستينات والسبعينات بلغ التصادم بين المثال الفردي للذات والعالم والقيم والأهواء، وبين انماط العيش التقليدية الموروثة، ذروته، فنشأ عن ذلك غضب وتمرد شبابيان وثقافيان شكّلا ظاهرة عالمية عبّرت عنها بقوة لافتة الحركات الطالبية، وحركات تحرر المرأة وتحرير الرغبة الجنسية، التي وصلت اصداؤها قوية إلى لبنان الستينات، فتلقفتها الحركة الطالبية ودوائر الحياة الثقافية اللبنانية الناشطة في بيروت، على نحو لم يتوافر له مثيل في العواصم العربية كلها.
أنسي الحاج دفع الغضب والتمرد هذين حتى الأقاصي في "كلماته" التي اختزنت التمرد الجبراني، تجربة مجلة "شعر" في الخمسينات، وأسلوب المدرسة اللبنانية في التعبير الأدبي، ولا سيما كتابات فؤاد سليمان في "تموزياته النهارية".
لكن ذلك الخزين الثقافي والتعبيري لا يكتمل إلا إذا أضفنا إليه تراث مجلة "المكشوف" التحرري الذي ساهم فيه والده لويس الحاج في الثلاثينات والأربعينات إلى جانب "عصبة العشرة" من الشعراء والقصاصين. أما صوت فيروز الشعري أو الشاعر، الطالع من لبنان المثال والحلم مضرجاً بالحنين، فقد شحذ بدوره طاقة صاحب "الرسولة بشعرها حتى الينابيع" على الغضب والتمرد اللذين لا تكتمل مصادرهما الثقافية والتعبيرية إلا بإضافة الإستلهامات المحلية هذه إلى أعلام من الشعر والثقافة الفرنسيين في حقبة ما بين الحربين العالميتين وما بعدها، من السوريالية والوجودية والعبثية والعدمية.
هذه المروحة من المخزونات والاستلهامات التي استلّ منها أنسي الحاج غضبه في "كلماته" النهارية، هي محفزات ثقافية وأدبية تساعد في الكشف عن التوتر بين صورة للبنان المثال بوصفه قريناً مفرداً ووحيداً للحرية في محيطه، وبين لبنان الواقع الإجتماعي والسياسي في هذا المحيط الذي غالباً ما يكبح فرادة المثال اللبناني، ويدفع أوساطاً من مثقفيه وجماعاته إلى أسطرة الحرية اللبنانية وإخراجها من التاريخ ومن التاريخ الاجتماعي وحوادثه ومنعطفاته. لكن التاريخ المنسي أو المكتوم والمكبوت سرعان ما فاجأ اللبنانيين جميعاً وأدخلهم في حروب مدمرة لا يزال التأريخ الفعلي لها ضعيفاً، وكتب أنسي الحاج قبل أيام من بدئها: "لم نعد ننتظر شيئاً من أحد/ إننا ننتظر من الله/ وبانتظار معجزته، هناك (...) طلب واحد: دعونا نعيش بكل تفاهة (...) لم نعد نطلب أكثر،/ بكل تفاهة". ثم كتب في مقدمة "كلماته": "إن خيبتي/ بالحياة والفن، بالرجل والمرأة، ترافقت مع سقوط لبنان".


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم