الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

أنسي الحاج... قل لنا وداعاً

المصدر: "النهار"
A+ A-

ها هو الشاعر الكبير أنسي الحاج يُودَّع الى مثواه الأخير.


في حضور ممثل الرؤساء الثلاثة وزير الثقافة روني عريجي، وشخصيات سياسية بينهم رئيس مجلس النواب السابق حسين الحسيني، بدأت مراسم دفن الشاعر الكبير، في كنيسة مار يوسف الحكمة، في الأشرفية.


ترأس صلاة الجناز رئيس أساقفة بيروت للموارنة المطران بولس مطر، في حضور حشد كبير من محبي الشاعر من شعراء وكتّاب وصحافيين. ومنح عريجي باسم رئيس الجمهورية الشاعر الكبير وساماً من رتبة ضابط. وفي الآتي قصيدتان بقلم أنسي الحاج. 


يا شفير هاويتي


كَرِهوا أُمةً لأنها تبتسم فراحت تضحك
وقتلوها لأنها تضحك فأخذت ترقص
ومزَّقوها لأنها ترقص
فراحت عيناها تغصّان بالوعود وشَعْشَعَت نوافذها.
قطعوا يُمناها عن يُسراها لأن يديها قلبُ العالم.


شرٌّ من الكلام السكوت وشرٌّ من السكوت الكلام ولكن تعالي نستقر ونسافر بينهما. هنالك عند أفق النظرة وتحت نجوم الشوق. وأما الخريف فبابٌ غامض، وخلفه ربيع الوهم البضّ.
إذا كان اللقاء أعجوبة فالحزن ايضاً أعجوبة. أليس عجيباً أن أحزن بعدُ يا لبنان؟ لم أكن أظن، بعد اشتعال الله، أني سأولع بغير الحقد. وإذا بي لا أزال البحر الرهين بالقمر، والقمر الرهين بالشمس، والشمس الرهينة بالليل، والليل الرهين ببلاغ عينيكِ.
وإذا بي مرة أخرى أنكسرُ، أمام صَلبِكَ، انكسار قلب الأم.
يا ابني، يا حبيبتي، يا أمي، اللعنةُ ثم البَرَكَة. ويدي الممدودة من ذاكرة الى ذاكرة.


... وأمزج بينكِ وبين لبنان لأنكِ حليبه وعسله. بينكِ وبينه علاقةُ الزعتر بالهواء. بينكِ وبينه سريري، وكلامُ سريري، وأغاني الجمال الأخير. وقد كنت أعرفكِ، ولكن من يقول لي الآن من أنتِ؟


أعيشُ في ذكرياتنا المقبلة كما يعيش الحجرُ تحت الماء.
عالمٌ يجب أن أحيا فيه، ولا يَدَعونني أصل اليه. عالمٌ من الذين يسبحون في أهواء التجاذب. عالمُ المسحورين الساحرين. أكرهُ ما عداه. وعندما تلوّحين لي قبل أن تنامي، أعرف أننا لن نستيقظ إلاّ لنشكر بانخطافنا.
وجعي من القتل يذوب أمامكِ، ووجعي على القتيل يصبح فيكِ قيامة. يا شفير هاويتي، يا مُغْريتي وضَحيتي، أشهدُ أن لا شروق إلاّ من عينيكِ، ولا ظهورَ إلاّ في عينيكِ، ولا هبوب إلاّ على جبينكِ، ولا هدوء إلاّ على جبينكِ، أشهدُ أن لا حياة إلاّ الموت فيكِ، ولا سلام إلاّ من شهوتك، ولا مستقبل إلاّ على جناح شَعرِكِ، تاج العالم، يا شفير هاويتي.
أشهدُ أنكِ ما نمتِ إلاّ في حلمي
وما استيقظتِ إلاّ في حلمي
والذي يمشي على الأرض منذ البداية
ليس أحداً
غيرُ وحش رغبتي فيكِ
وطفلها.


المقتلةُ تقرع الأجراس
ووجهكِ يقتحم حريتي ويرفرف منتصراً فوق حطام خُلوّ البال.
وما يُفْرقه الإنسان يَجمَعه الإنسان
والأرض التي يَحْرقونها
تُزهّرينها يا هاوية شفيري
يا شفيري القدوس، الموزون على إيقاع المعنى الوحيد للحياة:
البلوغ بالنشوة الى سقف المُطلق، رفعُ السقف، فَتحُه، والمضيّ أبعد من الكواكب!
تُوحِّدينني حين تصبح التجزئة جحيماً
وتُجزئينني حين يعود التوحيد منفى!
ومن تحت زجاج التحطيم وغبار الانهيار
تسحبني وَقْفَتُكِ البيضاء
وبلا شيء من يديكِ تَمسحين جبينيَ المدمَّر
فأنهضُ وأطير متلاشياً في خير النشوة.


ليصل الى الأخير السقوط
هنالك سطحيّة غنّاء، سطحيّة صديقة، جوهرية للمسافات، كزمرّد، كياقوتٍ وأزهارٍ في الشَعْر، كلمْبات كهرباء ملوَّنة متلألئة في العُلى وبين الثواني العابقة بالمُنى. أشمُّ وأنا أقول ذلك رائحةَ عطركِ الذي هو أنتِ أكثر مما هو أنتِ قلبُكِ وجلدكِ وعيناي. شيءٌ من الكذب بل أشياء أهمّ من الحقيقة. لا أريد أن أنافس بل أن لا يكون لي شبيه. وأن لا يكون لأحد شبيه. أريد أن تعطيني ما ليس لي فهذا ما هو لي. أريد أن ينزل واحدنا في الآخر كالمعجزة في الجسد، كالقَدَر في اللحظة، كيَدِ الله في العدم. أريد أن نبلغ بتبادلنا المطاردة الى حيث ينتهي هَرَبُنا، فلا يعود بيننا غير سحرِ اغترابٍ دائم يجذبنا على الدوام.


اهتديتُ منذ البدء الى الصراط المستقيم: هواكِ، ويدور حولنا ليل الأرض. وعرفتُ دائماً معناي: رفْعُ الستار في نفسي عن الحب وإسداله، رفعه واسداله، ففي بياض ذلك وسواده زرقة السماء في القلب، لهفة الله، والقوة المستعادة ملء لاوعيها النشوان، مُشّعةً كنجمةٍ تُغسَل من خباء الدهور.
كما أسمعُ كلام عينيكِ يعبرُ بي عبور الإنقاذ، تسمعين طفولتي تستنجد من أعماق البئر، من بين براثن اليُتم الخالد.
هلمّي نتبادل هدايا ألغازنا، فما أطيب تسليمنا مفاتيحنا واحدنا للآخر! أليس هو اكتشافاً لذاكرتنا الطبيعية، ذاكرة الشلالات؟
نظرتُكِ إليّ هي اليد التي تُنزلني الى روحي متجاوزاً تلك العتبة العسيرة.
نساء الحلم مَرَرْنَ في عينيكِ، ومرّ رجاله.
غروباً، فتحتُ بوابة الحديقة المهجورة. كان هناك الجدول الأصفر، شجراتُ الطفولة، حجورٌ بين الحجارة مودوعةٌ فيها عواطف ملائكةٍ سابقين. كان هناك شوكٌ رهيفٌ وأزهار ارهابية تلتهم الحيطان. وطيورُ العبور التي لا تقيم في بلدٍ ولا في هُنيهة، أقامت مراكزها هنا في الشبابيك. كان هناك كلُّ هذا، والسماء، ولم أرَ غيرك.
غيرَ نُقصاني منكِ، نقصاني التام كالبدر
غيرَ ظمأي اليكِ، ظمأ الحاسد الظالم الحنّان.
وككل مرة، هطلت أمطار الحياة الجديدة
فهل تعود هذه المرة وتجفّ المياه؟


يا ملاكَ التاريخ، ابتعدْ!
يا ملاك العقل،
يا ملاك القِوى،
يا ملاك العصور، ابتعدْ!
ليبعدْ عنّي وجهكِ
اختبئي من تبكيت عينيّ
من عين كلمتي أيتها الأمم ذات الجريمة الجبانة
أيتها المُرائية الساخرة من القتيل!
أبصقُ في وجهكِ حقداً
من دم كل طفلٍ ذبحه ملاككِ الدجّال
وهو يقول له: "أنظر ما أشقاك كيف تذبح نفسك بنفسك!"
ويا أيتها السماء
كما لم يمت ليَ حب
لن يموت لي ثأر
حتى يصبح للحَمَل قوة الذئب
وللحمامة قدرة العُقاب الكاسرة.


يدخل علينا الصباح مدهوشاً. لم يكن يظنّ أنه سيجد الوَجْد هيكلاً للبغضاء.
نغمر الصباح بوشاح من حرير لبنان. نهمس في أذنه كلماتٍ كان يجهل. يضيء شمعةً في الهيكل وينصرف كسائر المصلين، راضياً مرضياً عما تنسجه أحلامنا الشريرة.


لن يذهب ما لم يذهب
لن يأخذوا ما لن يُعطى.
قهراً قهرني زمنُ الدجّالين
ولكنه مقهور ايضاً بحبّي.
هو الخاطف تاريخي وأرضي
وأنا المالك مفاتيح الجنّتين،
هو الحارق غاباتي
وأنا الجذور اللاتُحرَق وخَصْبُ تُرابِ الجذور،
هو الضاربني برأسي القاتلني بجسمي
وأنا الأبله المرتمي في كل فخٍ، ولكني المعصوم عن الموت لبساطة قلبي،
هو الثعلب العبقري
وأنا الكناريُّ الذي له مجدُ الحياة والموتِ طرباً.


وأنتِ
أيتها المُطلّة عليَّ من أعماق عينيها
يا امرأة السنابل
يا شفير هاويتي
تخترعين لي الحياة كلما انتهت،
وعلى الشاطئ المهجور تجلسين لتَرْقبي
طلوعي من البحر
قارةً صغيرة كظلّكِ
لا نهائيةً كظلّكِ
قارةً لانتصار الحياة
حدودُها انتظارنا
وقلبُها وحدكِ يا حرية.


الوليمة


تريدون شعرا؟
ومتى كان الشاعر يكتب شعراً؟
تريدونه في سرّه، في تأليفه؟
تريدون تلك الظلال، وذلك التجديد، وتريدون الرموز والأشكال؟
والموسيقى؟
والصُوَر؟
اذهبوا! اخرجوا من هذه الغرفة!...
كان شِعر، ولم تكن عفوية
وكانت عفوية، ولم يكن شعر
وكان الشعر والعفوية فظلّ مكانٌ
مكانٌ إلى الأمام
جائعٌ
جائعٌ تسمعون جائع.
وتقدمتُ
لا للشعر ولا للعفوية ولا لأجلكم
تقدمتُ لأني في الحبّ
وأصبحتُ الطعام
أصبحتُ طعام الحبّ
أكلني
حناناً شفقةً
نشوةً غيرةً
شكّاً ندماً
افتراساً انصلاباً
غباوةً تنازلاً
خوفاً قهراً
فشلاً غربةً
من كتفيَّ وعينيَّ وقلبي ومن أسناني
وجعل في رأسي خلخال العذاب
جعل رأسي يدور ويرنّ بين يديَّ ويرنّ بلا يديَّ ويرنّ بلا وقت
أني أُهديتُ حتى النهاية وتقدمتُ بعد النهاية.
مَن أنتم؟
من يكون هناك خارج الرأس؟
تطلبون؟ تعيشون؟ تحاسبون؟ تقرأونني؟
لا؟ لم تسمعوا بي؟
ليس لي إخوة إلاّ ضحايايَ الذين جلدوني
ليس لي إخوة إلاّ جلاّديَّ الذين حطّمتهم
وما أشقاهم إخوة!
وأقول "لأني في الحبّ"
وأقول "أصبحتُ طعام الحبّ"
ولكنْ أيّ حبّ؟
ضوء القمر جزءٌ ضائع في ظلام الله!
لا تبحثوا عني في كلمة
ولستُ في شيء.
احرقوا هذه الكتب!
خيانة!... خيانة!...
ليس شيء.
لقد تقدمتُ مفتوح الحواس
وشربتُ الليل.
أنا هو أنا؟
مَن يناديني؟
مَن أنتم؟
كيف أصف أين مررتُ وأظلّ احتمل الشعر ويحتملني؟
من أيّ عينين تخرج ذكريات النعمة
وأيّ لسان يردّد صدى السقوط؟
أين أنا؟
وأيّ جلْدٍ يستوعب هذه الروح التي تستلقي على جروحها وترى، بعيداً قريباً، عالم أحلامها يتحقق تحت سلطتها الوحيدة
أو لا يتحقق
وعندما يتحقق تكون
وهذا أغرب ما يكون
سعادةٌ للقتيل وسعادةٌ للقاتل
أيّ جلْدٍ يستوعب هذه الروح؟
لم أقل يوماً تماماً ما هو الحبّ لي
وما هي الحياة
أنا السطحيّ باطنيّ جداً
أنا المُحبّ كارهٌ عميق
أنا الشاعر لستُ شاعراً
خذوا! خذوا فنونكم!
ما لي ولهذا الكلام؟
بعضه يشبههم! يشبهكم!
حماقةٌ تُخوّنني نفسي
مجاملة تُهوّرني فأجنح.
لستُ معكم
لا تُدخلوني!
أنا محتاج أن يشبهني كلامي
دائماً، بلا تسامح.
أريد رأسي!...
وسأحتفظ به!...
وبغصتي هذه
حيث أنا
وحيث أرى الجميع كما هم، ومرارتي أكبر منهم.
أنا في غصتي هذه
ولن أرتّبها في كلمات
لأن حقيقتي أصغر أو أكبر
لكنها ليست حيواناً في حديقة اللغة
فلا فنّ يعشق ما فيَّ
ولا كائن يُجديني أن يعرف.
أغلقوا عليَّ الباب
سيظلّ بيني وبينه فاصلُ كلمة
ولن أقولها لأفتحه.
سأختنق
فهذا هو الأفضل
هذا هو الشعر
والجواب
والوحش الذي لا يعيش
إلاّ على الطريق التي سيسلكها
كلّ من يختنق في ما بعد
عوض أن يختنق وينجو
قبل أن يولد!...

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم