الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

رسالة إلى أنسي الحاج\r\n

المصدر: "النهار"
عقل العويط
عقل العويط
A+ A-

أعرف أنكَ نائم.


كلنا يعرف أنكَ أمضيتَ الليلة السابقة ساهراً. وأنكَ سهرتَ النهار كلّه أيضاً، خلافاً للعادة.
كلنا يعرف أنكَ عندما تؤوب إلى النوم بعد ليلٍ أبيض، لا تسمح لأحد بأن يوقظكَ. فكيف بعد نهار وليل؟! لكني لا آبه. يجب أن تستيقظ لتقرأ هذه الرسالة. ضروري، يا أنسي.
نومكَ لن يخدعني. ولا انتظاري سيضجر.
لقد عرفتُ أن الدولة قد هالها غيابكَ الفادح. وأنها ستسرسل، بعد ساعات، من يمثّلها في حفلة الوداع الأخير. شكراً للدولة.
لكنْ، عندي طلبٌ سخيّ، اليوم، أطلبه من الجمهورية اللبنانية، بإلحاح واحترام: لا تمنحي أنسي الحاج وساماً أيتها الجمهورية!
إكراماً لأنسي الحاج، أسألكِ أيتها الدولة أن لا تبادري إلى هذه التحية الرسمية المشكورة!
بدلاً من ذلك، ليت السلطة التنفيذية، في أول اجتماع للحكومة، توزع على الوزراء نسخاً من دواوينك الستة، ومن "كلمات كلمات كلمات" بأجزائه الثلاثة، ومن "خواتم" 1 و2.
ليت السلطة التشريعية عندما تعقد جلستها الموعودة لمناقشة البيان الوزاري، توزع على أعضاء مجلس النواب نسخاً من كتبكَ هذه.
لكن، ما لي وللأمنيات.
فلأكتب هذه الرسالة، وليقرأها أنسي الحاج.
***
هذه الرسالة هي لكَ شخصياً، فاستيقظْ يا أنسي. واقرأ.
لقد تناهى إليَّ أن الدولة تحضّر، مشكورةً، وساماً تعلّقه على صدرك. شكراً للدولة. لكني أرجو أن لا يكون هذا الخبر صحيحاً. لأنه إذا صحّ، فلا بدّ أن يكون الأمر قد اختلط على المعنيين اختلاطاً فجّاً.
من جهتي، لا أريد أن أصدّق. بل الأكيد أني أفضّل أن أتوهّم. ففي لحظات مزلزِلة كهذه، لا بدّ لمَن يكون مثلي، أن لا يصدّق أن أحداً – ولا الجمهورية اللبنانية - سيعلّق وساماً على صدر أنسي الحاج.
هي غلطة. بالتأكيد. لكنها ستكون غلطة قاسية، في حقّ الشاعر أنسي الحاج، إذا صحيحة.
أعرف أنه ليس مسموحاً لي، ولا لأحد، بأن ينغّص أوجاع الموجوعين في هذه اللحظات. كما ليس من الجائز التفلسف على أحد. ولا المزايدة على أحد. لكنكَ، يا أنسي الحاج، لو شئتَ أوسمةً ونياشين، لكنتَ اخترتَ طريقاً غير الطريق الذي اخترتَه، ولكنتَ كتبتَ كلمات أخرى غير الكلمات التي كتبتَها، ولكنتَ عشتَ حياةً غير التي عشتَها.
لمَن تحضّر الجمهورية الوسام إذاً؟
لم تفعل، يا أنسي، شيئاً تستحقّ من أجله وساماً - عقاباً كهذا العقاب. فلماذا يقاصصونكَ؟
كان الأحرى بالدولة التي قد تكون تحضّر لكَ تكريماً في مناسبة هذا الرحيل المفجع، أن تتدارك مسألة كهذه منذ شهر، منذ شهرين، بل أشهر، وأكثر، فتستمزج رأيكَ. أو تجد طريقة أخرى لتقف على خاطركَ، وخاطر المنزلة الشعرية الكبرى.
كان عليها مثلاً أن تكون قد قرأت أدبكَ جيداً، لترى هل من الضروري أو المناسب أن يُكرَّم هذا الأدب بالأوسمة البروتوكولية الرسمية؟!
أصرخ معتذراً. فسامِحوني. لكني أعتقد أنكَ، يا أنسي، لا تطيق مثل هذا الوسام!
أنتَ الذي لم تكن تقبل أحياناً تحيةً من الهواء، كيف تتحمّل تحية كهذه؟
لم يُعرَف عنكَ أنكَ كنتَ رجل مناصب أهلية أو رسمية. لم تكن شخصاً عاماً. ولا شخصيةً عمومية. لم تكن رجل أحزاب. ولا كاهناً في مؤسسة. لم تتطلع إلى تصنيفٍ من هذا النوع. ولا إلى مجدٍ كهذا المجد الزائل. لم تربّ صداقةً "اجتماعية" مع أقرب المقرّبين إليكَ، فكيف مع جماعة الشأن العام.
لم تكن، يا أنسي الحاج، قريباً من أحد، ولا حتى من شخصكَ العمومي بالذات، ولا من الشعراء. فكيف يتقرّب وسامٌ منكَ، مهما كان وفيّاً، معترِفاً، ومشرِّفاً للجمهورية التي تمنحكَ إياه؟!
كيف يتجرأ وسامٌ أن يستريح على صدركَ، الذي لم يلامسه إلاّ حفيف الحبّ والحرية؟!
أنتَ، يا أنسي الحاج، شاعرٌ فقط. بكلّ ما تنطوي عليه كلمة شاعر من خروج على كلّ تصنيف. وأنتَ الآن، شاعرٌ فقط. وستظلّ شاعراً فقط. والشاعر أوسمتُه كلماتُه. فقط كلماته. دونها لا شيء يستحق الذكر. فكيف بالنياشين والأوسمة!
أنا فظّ. فلتسامِح الجمهورية وعائلتكَ، فظاظتي.
أنتَ، يا أنسي الحاج، تستحقّ الحرائق كلّها. فلنشعل لكَ حرائق القلوب والكلمات.
أنتَ، يا أنسي الحاج، تستحقّ الهواءَ كلّه. فلنجعلكَ تذهب خفيفاً في اللطيف الهواء.


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم