الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

نصفُ اعتذار

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
نصفُ اعتذار
نصفُ اعتذار
A+ A-

تصريحٌ بِالحُكْم: "حَكَمَت الـمَحكمةُ، حضوريًّا، بسجن سادي أمار تسعَ سنواتٍ نافذة، بعدما أُدينَ بالاستيلاء على المال العام واستغلالِهِ في وظائف وهميّة، مع سَبق الإصْرَار والتعمّدِ. ورَغمَ ثُبوت التهمة بأدلة قاطعة، يُصرُّ الـمُدان عَلى الصَّمت وعدم الاعتذار". حُرِّرَ في الرابع عشر من كانون الثاني 2003 بالمحكمة الجنائية بباريس.

يوميات سالم الأبيض في باريس: "سأعود بكَ إلى أقسى الذكريات. كان يَنبغي عليَّ أن أعتذرَ للأستاذ سادي عن "جُرمي" الصغير. لكني لم أكن أملك إلا عبارةً واحدةً، هي:Pardon""، في هذه اللغة التي قَهَرتْني. لو كنتُ أستخدم لهجتي الأم لانْثالت عليَّ العباراتُ تباعاً. يواجهك صمَمُ الكلمة وكبرياؤُها. يَنظر إليَّ الأستاذ "سادي" بازدراءٍ. أودُّ فقط أن تتشكَّل من كلماتي جُملة اعتذارٍ مفيدة، يبلغ مَعناها بوضوح. اتهمني بأسوأ التُّهم التي لا أتحمّلها: السرقة. "سَرَقتَ أوراقي من مَكتَبِي". ولكنَّ الأوراقَ أوراقي وأنا الذي كتبتُ فيها نصًّا من صميم عباراتي. سَلّمته إليه حتى يقْرأها ويُصلحه. هذا دور الأستاذ الـمُشرف. تعوَّدْنا على العمل بهذه الطريقة طيلة أشهر تحضير شهادة الدكتوراه. كان يَضع ملاحظاته، (التافهة والشكلية جدًّا) على الهامش ثم يأمرني باستعادتها. يناولني الأوراقَ لإصلاحها. كانت هذه العملية آليةً. لماذا اختلف الأمر هذه المرة؟

هذه المرّة، أرادَ إذلالي. لا شكَّ في ذلك. ساءت بيننا العلاقة لأسباب لا صلة لها بالعمل. فقد طَلب مني تسليم أوراقي إلى "القارئة"، مع أنها لا تَفقه شيئًا في موضوع رسالتي. ولكنها، فيما يزْعُم، تتقنُ اللسان الفرنسي أحسن منّا جميعًا، نحن الطلبة العرب. أسند لها وظيفة "قارئة" مقابل راتبٍ مُغْرٍ. كانت تتبجَّح به أمَامنا. وكان هو يُجبرنا على التوجُّه إليها لإصلاح نصوصنا. ونفعلُ صاغرين.

أراني أوراقي بسرعةٍ. ثم وضَعها جانبًا وانصرف لإحضار شيءٍ ما. فما كان مني إلا أن أخذتها، ببراءةٍ، لأنظر ما فيها. كانت نيتي إصلاحها، كالعادة. فأنا لم أسرق أوراقي ولا دارَ بخَلدي هذا الفعل. وَبَّخني صائحًا، باللهجة التونسية. حين يَغضبُ، تعود إليه لهجة الآباء. لم تَعلق بذاكرته سوى الشتائم وكلماتٍ عامية تجاوزَها الزمن. ولكنّه كان يُجبرنا على الردّ بالفرنسية.

حاولتُ أن اعتذرَ له. لم تَجُل في خاطري سوى الكلمة المكررة التي يَعرفها القاصي والداني: "Pardon"، وقد ضَعُف وقْعُها من كثرة التكرار والإعادة. خذلتني هذه اللغة التي أغالبها فتغلبني. كنتُ أظن أنّي تَملَّكتُ ناصيةَ مفرداتها، فإذا بها تخدعني. عندما أتخيّل أني أتقنت معنى كلمةٍ ما، تُحرجني أمام أصدقائي بمعنًى آخرَ لها، أوبحمولة سلبية لا يعرفها إلا قلةٌ. حاولتُ أن أستسمحه بالعربية. لكنَّ غطرسته أخافتني. فضَّلتُ الصمتَ حتَّى انتهاء مناقشة الأطروحة". 14 كانون الثاني 2001.

تقرير سرّي لعمادة الجامعة:

"السيد سادي" من خيرة الأساتذة الفرنسيين. يُتقن لسانَهم ويتأنق فيه. حريص على صفائه حتى لا تُلوِّثَه الاستخداماتُ الأجنبية. هذا واجبُنا جميعًا كفرنسيين، بعد أن داهمت ثقافتَنا مظاهرُ التراجع. كان طلبتُنا أكثر جديةً من الآن. صاروا اليوم من الملتحين والـمُحجَّبات. لن أتردد في شجب هذا الواقع الكريه حتى ولو اتهموني بالإسلاموفوبيا. أرادوا فرضَ "الشريعة" داخلَ الفصول. كلما وَقفنا في وجوههم ذكّرونا بأنَّنا سَرقنا موارِدَهم وطالبونا بالاعتذار. لحسن الحظ، تصدّى لهم الأستاذ "سادي" "بكل حَزمٍ" ودافَع عن القيم العلمانية بأمانة. لما استشعرَ أنَّ تراث الجمهورية بات مهددًا بهذه الأصوات النشاز كان صرحًا"، مع أن اعتداءات 11 سبتمبر جعلتنا جميعا أكثر هشاشةً. 14 كانون الثاني 2002.


شهادة الطالبة نجوى الحمروني:

"كانت "القارئة" مُتواطئةً معه. لا شكَّ في ذلك. تُهيننا بنفس عباراته وتتفنَّن في إذلالنا. تَتظاهر بقراءة نصوصِنا. وتتباطأ لأكثر من شهر كاملٍ، في قراءة وريقاتٍ قليلة. تتعلل بأوهى الذرائع. ثم تردُّها إلى الأستاذ وفي الهوامش خَربشات بَسيطة ومقترحاتٌ تافهة وشكلية، لا تمسّ جوهر الموضوع. رغم أنَّ هذه "الخدمة" كانت مدفوعةَ الثمن من الجامعة، فإنَّ الأستاذ سادي يُطالبنا بدفع مبالغ إضافيّة..."، شهادة نجوى الحمروني، حُرَّرت بالقطب القضائي في الثاني عشَر من شهر كانون الثاني 2001.

مُذَكَّراتٍ سجين بضواحي باريس:

"خُنتُ أهلي ورجالَ قريتي. تَمَلَّقْتُ قَتَلَتَهم وتزلَّفت إلى جَلاديهم. انصهرتُ في لغتهم حتى أنال إعجابَهم. شكَّلتُ قلبي حَسَبَ قوالبهم حتى ذابَت شخصيتي. نسيت بلدَتي عدا ذكرياتٍ باهتة لـِمُسنِّينَ كنتُ أعبرُ أمامهم المقهى وأنا طفلٌ. تَفوح منهم روائح الفَطائر والدّخان. ذاتَ مساءٍ، سَرقتُ خزانةَ مَركز البريد. يأتيه المسنون مرةً في الشهر لقَبْض جراياتهم الهَزيلة... انكشف أمري. كانت الفضيحة كبيرة في بلدتي. اضطرَّ بسببها والدي إلى نقلي إلى مدرسةٍ في المحافظة ومنها إلى العاصمة. طِرت إلى فرنسا في أول فرصة. أودّ أن أعتذر لِرجال قريتي. لم يُعد في ذاكرتي إلا كلمة: "سامحني". لا تفي بشيءٍ. لكنَّها تُخَفّف عَنّي غُربة تسع سنواتٍ سجنًا. من أيام، شجَّعني "بَعضُهم" على الانخراط في المعارضة السياسية لنظام بن عليّ ووَعدني "النظر" في تخفيف الحُكم...". 14 كانون الثاني 2009.

شهادة "القارئة" لدى المحكمة الجنائية:

"الأستاذ سادي بمثابة الأب لي. رأى في عنادي طوقَ نجاةٍ له. كان يهادنُ زملاءَه حين يهينوه، ولكن يثأر منهم عبر صوتي وغَضبي. ساعدني في الحصول على "مَنصبٍ" حتى أقف شوكةً في حَلق زُملائه الذين يَزدرونه في بواطنهم، وقد يصرّحون بذلك أحيانًا في اجتماعاتهم الضيّقة. يرون فيه "دابة غير مُرَوَّضة" بالشكل الكافي. يسمّونه "الحِصان الجامح"، ويضيفون بسخرية "سيعود إلى طبيعته مَهما بُذِل في تَرْويضه". هل تواطأتُ معه؟ ربَّما بشكلٍ ضمني. ربما يكون تَلاعب بي. كلماته ماكرة. أقنعني أنه بمثابة أبٍ لي. وأنه عَلينا أن نستغلَّ الطلبة العرب، لأنهم متكبرون محتالون، جاؤوا فقط لنهب خيرات فرنسا. رسمنا "عقدًا" في صمتٍ: عرقلة النجباء منهم وتثبيط عزائمهم. أسأنا إلى كثير منهم وهَضمنا حقوقَهم. كانت تسوية حساباتٍ مع الإدارة ومع الزملاء ومع فرنسا. دافع عن منصبي المُكْلِف بشراسةٍ. أريد أن اعتذر لكل هؤلاء الطلبة الذين ظُلموا بسبب الصراع الداخلي في "كلية اللغات"، وما فيها من توترات. أودُّ أن أصارحهم: "هم ضحايا حساباتٍ ضيِّقة سخيفة. أعلم أن مصائر العديد منهم قد ضاعت في مداولات القسم المتعلقة بنتائج الامتحانات. أعلم أنَّ "الأجانب" فقدوا بطاقات إقامتهم المؤقتة فأصبحوا مشردين. أهدَرَ بعضُهم مدخراتهم الشحيحة دون جدوى. ربما كنتُ ضحيةً مثلهم. لكنْ، لا أملك سوى كلمة: "عفواً"، هذه التي يَعرفها الجميع. أراها باهتةً سخيفةً. لا أملك غيرَها". أواسط 2002


تقرير النيابة العامة:

"تَتجه الشكوك الجادة إلى الأستاذ "سادي" باختلاس أموال الدولة وتوظيفها لأغراضه الخاصة، عندما كان رئيسًا لقسم اللغات الاجنبية بالجامعة. أجرى قاضي التحقيق التحريات الأولية مع الـمتهم الذي لازم الصمت إلى حدّ الآن رافضًا أي نَفيٍ أو نَدم. تثبتُ كلُّ الوثائق البنكيّة والفواتير والتقارير المالية تَوَرُّطه في عملية التفاف واسعة على المال العام". ولم ينبس خلال جلسات الاستماع الطوية بكلمة : "عفوا"، ولو مرّةً واحدة. كانون الثاني 2002.

شهادةُ الطالبة نجوى الحمروني:

"كانت حفلة تخرُّجي باهتةً. تلت ثلاث ساعات مضنية في مناقشة رسالتي في الدكتوراه. حضرَها بعض الرفاق جاؤوا مُجاملةً. وحَضرها أيضا أبي الذي جاء خصيصًا من بلدةٍ تونسية بعيدة. اضْطُررنا إلى شراء زُجاجات شمبانيا غالية الثمن، بإيعاز من الأستاذ سادي. كان لا يترك فرصة إلا ويستغلنا. رأيت أبي، وهو المتديّن الوَرع وقد جاء خصيصا للفرح بابنته، يُمسك إحداها ويداه ترتعشان. تحمَّلَ ذلك من أجلي. كانت تخامرني رغبة واحدة: كسر تلك الزجاجة وإلقاؤها على وجه الأستاذ وفي وجه "القارئة" التي أجبرنا الأستاذ على التعامل معها. وكان لا يقبل فصلا من الأطروحة إلا بعد أن تصلحه هي. كان مرتبها عَاليًا، تَتَبَجَّح به أمام فَقرنا". أدلت بهذه الشهادة الطالبة نجوى الحمروني، في الخامس عشر من كانون الثاني 2001.

التقرير اليومي للمُخبر ن. م.

"في بداية الخمسينات، كان الصادق بن عمّار صبيًّا. كان يسرق الخوخ والتفاح من حقول الفلاحين ويحملها سرًّا لبَيْت مدير المدرسة الفرنسي. يُخفيها تحت الكَدْرون ويسير بها آخر العشي. كنا نراه يقصد المدرسة في غير الأوقات الاعتيادية. أمسكنا به مرَّة وقد سرق ديكًا ملونًا. رفض الاعتذار. صاح بلا حشمة. تدخل مدير المدرسة الفرنسيّ. هدد بغَلقِ القسم الوحيد فيها. كان معجبًا بإجادته الفرنسية. سمعنا أنه عندما هاجر لباريس غيَّرَ اسمه: مسيو سادي آمار وقد خرج من السجن بكفالة. واستفيد أنّه تحوّل إلى معارضٍ لفخامة الرئيس بن علي وصار ينتقده على أعمدة الصُّحف ويدَّعي أن "النظام" نَهب ثروات البلاد..."، هذا ما تَداوله الأهالي في المقهى صبيحة اليوم. تقرير المُخبر ن. م. في 18 كانون الأول 2010.

تقرير سرّي لسفير فرنسا بتونس:

"صباح الجمعة 14 كانون الثاني 2011: أعاد زين العابدين بن علي فرض النظام على البَلد والأمور كلها تَحت السيطرة. ويا حبذا لو ترسل وزارة الدفاع بعض العتاد لمساعدته على قمع هذه الاحتجاجات. لم ينهب خيرات البلد كما يصوّرهُ المتَمرِّدون".

يوميات سالم الأبيض في تونس:

كنتُ مع صديقتي نجوى الحمروني في شارع بورقيبة يوم 11 كانون الثاني 2011. نصيح معا: "الشعب يريد إسقاط النظام.". سمعنا، أثناء المظاهرات، بفرار بن عليّ. بعدَ سنتيْن، اعتذرت فرنسا لأنها لم تكن، فعلاً، مع الثورة. كان خطابُها نصفَ اعتذار.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم