الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

كليرمون فيران: مهرجان اليسار والفضوليين في فرنسا

المصدر: "النهار"
هوفيك حبشيان
كليرمون فيران: مهرجان اليسار والفضوليين في فرنسا
كليرمون فيران: مهرجان اليسار والفضوليين في فرنسا
A+ A-

دورة بعد دورة، وعلى مدار ٤٢ عاماً، يستمر مهرجان كليرمون فيران الفرنسي المتخصص في الفيلم القصير في تقديم سينما تحتفي بلغة مقتضبة، مختزلة، ولمّاحة. في هذه المدينة الصغيرة الواقعة في وسط فرنسا، تجتمع في بداية الشتاء من كلّ عام أعمال من كلّ أنحاء العالم لسينمائيين معظمهم شباب يخطون خطواتهم الأولى في السينما. هذه الأفلام ذات مستوى تقني عال جداً، وإن كانت الأفكار المطروحة تتفاوت من حيث الأهمية.

في الطبعة المرتقبة التي تُقام هذا العام من ٣١ كانون الثاني إلى ٨ شباط، آلاف الأفلام أُرسلت كالعادة الى إدارة المهرجان من أصقاع الأرض. لا تميز الادارة بين فيلم مشغول بمعايير تقنية صارمة وموازنة عالية، وفيلم مصنوع بـ"ليرتين". الامكانات معرّضة للتفاوض المادي، أما الخيال والأفكار وتقنيات السرد والدراما، فهي لا تخضع للمساومة. ولا بأس اذا ساهمت الثورة الرقمية في ان تشجّع البعض من غير الموهوبين إلى الامساك بالكاميرا والذهاب بها إلى حيث الأبواب المسدودة، فاذا لم يلّقنهم أعضاء لجنة التحكيم في كليرمون درساً، فالجمهور هو مَن يتولّى ذلك.

لم يعد خفيّاً على أحد ان كليرمون هو بمنزلة "مهرجان كانّ الفيلم القصير". ورغم هذه العناية الدقيقة التي يحظى بها، يبقى الفيلم القصير نوعاً سينمائياً هامشياً، ولا يزال إلى اليوم خارج دائرة اهتمام أصحاب القرار في التلفزيونات مثلاً، باستثناء شاشتين فرنسيتين هما "كانال بلوس" و"آرتي" اللتان تخصّصان حصصاً له.

طوابير تتكون أمام قاعات المهرجان الموزعة والمنتشرة في أرجاء المدينة. لا يتوقف المشاهدون عن ملء الصالات المظلمة، صباحاً ظهراً ومساءً، رغم ان أغلب الأفلام ليس موجهاً للجمهور العريض، الا ان الفرنسيينخصوصاً والأوروبيين عموماً شديدو السينيفيلية، يتميزون عن غيرهم بالفضول، والاهتمام بما يدور بعيداً من أماكن سكنهم..

لعل ما يُعجِب في الفيلم القصير هو تحرره من الأعباء التي تثقل كاهل الفيلم الطويل، من هنا هو يحمل طزاجة وحريّة ورؤية. انه مختبر أفكار حقيقي. لا ارتباطات اقتصادية والتزامات تجارية في الفيلم القصير، الذي يبشّر بعضها بما ستكون عليه السينما في السنوات المقبلة. مع ذلك كله، يصعب عليه ان يكون هدفاً وفنّاً قائماً في ذاته، لأن معظم السينمائيين لا يلجأون اليه سوى من أجل العبور منه إلى الفيلم الطويل..

لا يتردد كليرمون في اقتراح كلّ ما يصدم حساسية المُشاهد الذي لا يمنعه كسله الفكري أحياناً من المزيد من الابحار في عالم الصورة. معاينة سريعة لقسم "مختبر: (حيث الأفلام التجريبية الأشد) نجد فيه الجواهر، أعمال تتفلّت من كلّ القيود، تقنيات تفكيكية تخرج عمّا ألفناه في الأفلام التقليدية.

كثر هم السينمائيون الذين يُعتبرون قامات كبيرة اليوم وقد كانت لهم أفلام في كليرمون في بداياتهم. نذكر من هؤلاء: مايك لي، توماس فينتربرغ، جان بيار جونيه. الجمهور الذي يأتي إلى المهرجان، وهو من الأعمار كافة (ينبغي رؤية الحصص المتخصصة للمدارس) هو الضمان الأكبر لحدثٍ ما كان ليستمر كلّ هذه السنوات لولا دعم السكان المحليين له.

من المستحيل تعداد أفلام الأقسام كلّها. يصعب على المتابع ان يغوص في البرنامج المتشعّب الذي يوفّر عروضاً تحدث بالتوازي على نحو عشر شاشات في المدينة. لا يمكن تجاهل أيضاً الندوات واللقاءات اليومية والأنشطة الكثيرة التي تحتفي بالفيلم القصير.

بعد أربعة عقود من الحضور البارز كمنصّة للفيلم القصير، أصبح كليرمون المرجع الأكبر في هذا المجال، عبر اختياراته التي تُعدّ فرزاً للكثير من التظاهرات السينمائية الأخرى وعبر سوقه الكبير وقاعدته الشعبية وصيته الواسع في العالم. لقد حققت هذه التظاهرة السينمائية في نهاية المطاف ما عجزت عنه التلفزيونات التي لطالما أهملت الفيلم القصير وأقصته من حساباتها. ساهم كليرمون إلى حدّ كبير في إخراج الفيلم القصير من عباءة الفيلم الطويل الذي لديه مهرجاناته ونجومه وشاشاته وموزعوه وجمهوره.

اليوم، أصبحت مدينة كليرمون فيران، التي تحتضن مصنع ميشلان للاطارات، مشهورة بمهرجانها السنوي الكبير. والحق ان الأخير لم يبلغ هذا المستوى بسحر ساحر. لم تأتِ الأشياء اليه على طبق من فضّة. فمنذ أواخر السبعينات، نظّمت الدائرة السينمائية الجامعية في كليرمون أسابيع مخصّصة للأفلام القصيرة. بسرعة أمتلأت الصالات وكُتِب للمبادرة نجاح ساحق. بسرعة، قفز القيمون على الفرصة. وكان ما كان. ثم كانت الرواية التي نعرفها: أُنشئت ما يُعرف بجمعية "أنقذوا الفيلم القصير" في العام ١٩٨١ من أجل تشجيع تظاهرة تنحصر نشاطها بالفيلم القصير. وتطوّرت الأشياء على مدار السنوات، لتصبح ما هي عليه اليوم، إلى ان أمست مدينة هواها يساري وقيمها مستمدة من الطبقة العاملة محجّاً لعشّاق الفيلم القصير.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم