الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

مفهوم الغفلة والسقوط... بين الفلسفة والخواطر الصوفية

المصدر: النهار
د. باسم عثمان كاتب وباحث سياسي
مفهوم الغفلة والسقوط... بين الفلسفة والخواطر الصوفية
مفهوم الغفلة والسقوط... بين الفلسفة والخواطر الصوفية
A+ A-

لم يكن أبو حيان التوحيدي صوفياً بالمعنى الدارج للكلمة، وهي مسألة ينبغي ألا تعد معياراً للحكم على مصداقية ومشروعية رؤيته الصوفية معرفياً وقيمياً، إن الغفلة عند التوحيدي لا تعني العدم المعرفي المحض، وإنما حضوراً معرفياً إزاء الموضوع، لكنه حضور الجهالة والغياب والعجز عن إدراك الحقيقة، أو إدراكها إدراكاً واهماً زائفاً ينطوي على الشبهة والضلالة والمخايلة، بمعنى أن الموضوع يستتر محتجباً بظاهره الخارجي المموه والذي يستلب الوعي ويغيبه عن لب الموضوع وحقيقته الخفية الكامنة في عمقه، وكونه حجاباً على الحقيقة وإن كان يومئ إليها من طرف خفي بوصفه أحد إمكانات الوجود.

يقول التوحيدي: "أيها الغائص في الدهشة، أما لك من صرعتك نعشة؟ يا هذا...دع عنك ما جنا عنه عاجل عياناً، أما تمتعض من وقوعك في فخ الهوى وحبالة الشهوة، وشرك الشيطان بسبب ظاهري لا ثبات له، وزبرج لا صنعة فيه، وعارض لا غيث معه؟ ... لكنك في سكرتك عامه، وفي صحوتك من خمارك والهْ، والندامة والحسرة يجتمعان في العواقب.... يا صريع الشهوات في الشهوات، يا خائضاً في الشبهات على الشبهات، معتقلاً في الجهالات بعد الجهالات، متى يكون انتباهك؟ ........ اسأل نفسك، من هذا العاجل المحشو بالتمويه، ولا تجنح في كل ما تراه عينك الى ظاهره، بل غص على خفيته ودفينته، فهناك اللب والحقيقة".

من الواضح أن النزعة الأخلاقية الكلاسيكية ذات الطابع الديني تسيطر على النص، حيث يتبلور مفهوم الغفلة المعرفي في سياق السقوط القيمي للإنسان، حيث يغيب عن حضوره الروحي الخالد، أي ينحاز انحيازاً مطلقاً لطبيعته المادية، حيث تستسلم الروح وتخضع خضوعاً مطلقاً لهيمنة الجسد فتنحسر داخل حدوده وقوانينه، قوانين اللذة والألم والاحتياج المادي المحض، قوانين الضرورة المقيدة، بل التغير والزوال والعدم بالمعنى العبثي، حيث لم يبزغ فجر الوعي ولا التحديد الذاتي الذي يعبر عن القرار الإرادي الحر للفرد المتميز، إنها لحظة الانزلاق، إذ يسقط المرء في عمق ظلمة الجسد مستعبداً لهواه، مملوكاً لشهوته الدنيوية، أسيراً لشياطينه القارّة في أعماقه، لاهثاً وراء المتع العدمية اللحظية، مغترباً عن مملكة الروح حيث معانقة الوجود في حضوره الأصيل والمنطوي على العلوّ والحرية والخلود.

حصار الروح...

إن حصار الروح داخل قبضة الجسد يعني اختزال إمكاناتها وطاقاتها المعرفية والقيمية المتميزة والخلاقة، وفقاً للتصور الكلاسيكي الوسيط، الذي يعتبر الروح (النفس الناطقة العاقلة)، أي مركز الوعي والإدراك، وبذلك، ينحسر الوعي فاقداً فضاءاته البرحة عقلياً وخيالياً وحتى حسياً، لأن أسير ظلمة الغفلة لا يعي ذاته الإنسانية كمعنى وجودي كلي الحضور، أي: لا يتحقق معرفياً بكونه فضاء جامعاً للحقائق الوجودية (الإلهية بالأصالة)، أو بوصفه مختصراً وجيزاً أو إنساناً كلياً جامعاً فيما ارتأى (أخوان الصفا)، وتابعهم بصورة ما (التوحيدي)، ثم الصوفية من المتأخرين (كابن عربي) ومن تلاه.

بالطبع، إذا كان الوعي يختزل حضوره الذاتي في الفضاء المادي، فإنه لا يبتذل ذاته فحسب، بل يبتذل كل الكائنات من حوله ومجموع العلاقات التي تربطه بها، وهنا، الوعي يتمثل ذاته داخل فضاء الضرورة المقيدة ولا يستثني من هذا علاقته بالمطلق.

وهذا يعني، حصر الوعي داخل حدود الاستخدام أو في ظل علاقات عارضة متغيرة وزائلة، تنتهك حضور الذات كما تختزل حضور الأشياء والآخرين اختزالاً مؤذياً، ومن ثم، فضاء الغفلة هو فضاء للاستنفاد العدمي النفعي، حيث تنتفي إمكانات الجدل الحيوي الخلاق معرفياً وقيمياً بين الذات وذاتها، ما يقود إلى امتلاء الذات بالفخاخ التي ترصد المرء فتخدعه وتغيب وعيه غياباً تاماً عن إدراك الحقيقة في مختلف تجلياتها، وهو نمط من أنماط إعادة إنتاج القمع والإذلال، لذلك، الوعي المنتهك حضوره دوماً تستبيحه الذات، نافية له ومدمرة لهيمنته، إذ تسعى لاقتناصه كفريسة سهلة وتضلله، وتهيمن عليه فلا تمنحه حقيقتها أو تتكشف له، بل تخايله دافعة به إلى أعماق الغفلة والجهالة.

ولعل التوحيدي حين وصف الغافل بالمغيب المصروع، أراد إبراز مدى ما أصاب الذات من تدهور وانهيار، فغدت وجوداً عدمياً مبتذلاً، فاقد الإرادة والعقل والمسؤولية، ومن ثم الحرية والكرامة، ويطلق التوحيدي على هذه الحالة تعبيراً كاشفاً هو: "فسولة النفس".

هذا الوعي الغافل واليائس ينطوي على نوع من أنواع القلق السلبي، قلق القدر والذي هو مركب من الضرورة والصدفة، وهو يعني سيطرة قوى عمياء بلا قانون أو نظام أو غاية، يلقي بالذات في حمأة العالم وبهرجته، لتفقد هويتها وتفر من مواجهة مصيرها، إنها حالة السقوط في اللامبالاة وأوهام الأمان في أحضان اليومي وتفاصيله المشتتة. وتستسلم هذه الذات اليائسة والقلقلة للاندراج داخل حدود القطيع، وتغدو رقماً لا شخصية متفردة ومتميزة، وتخضع تماماً لمعايير القطيع وقيمه دون مناقشة، ولعل معايشة هذا الإيقاع المتغير لعلاقات هذا الفضاء اللاإنساني هو ما يمنح الذات أمانها الزائف، إذ تواجه اليأس والقلق القارين في داخلها دون أن تعيهما، أو مواجهة التهديد بالتهديد دون وعي مأسوي للمسألة، حيث إنه وعي عبثي لا يعي قدر عبثيته، والتوحيدي يعبر عن هذا بقوله: "وحين يبلغ العجز آخره.... ويسترق اليأس ظاهره وباطنه، أي لا رأي لمكذوب؟ إرادة مشوبة.... وعلاقات متهمة... وطمأنينة زائفة".

فضاء الغفلة وسقوط الذات...

إذا كان فضاء الغفلة هو فضاء التشيؤ والابتذال واليأس والقلق اللاواعيين، فإنه كذلك فضاء الوحشة المطلقة والاغتراب الحاد، حيث الهلاك والغرق في مساحات عدم التواصل وسوء الفهم المتبادلة بين الذات وذاتها، فحين تغيب الذات عن معناها الإنساني فإنها تغترب عن حقيقتها الوجودية الأصلية، وعن مراياها العاكسة والكاشفة للحقائق الكونية والإلهية بوصفها فضاء جامعاً لهذه الحقائق، حيث تسقط الذات في الرؤية الجزئية المنغلقة، فتتشظى مراياها المعرفية ولا تستطيع التقاط ذلك المعنى الكلي المتجلي في الجزئيات الكونية،

وهكذا، تغترب الذات عن ذاتها، لأنها لا تمتلك الوعي القادر على التقاط حقيقتها الذاتية والكلية الكامنة، وبلغة الصوفية: "تعجز الذات حين تسقط في الغفلة عن قراءة الموجودات من حيث هي مجال للحقائق الإلهية الخلقية، بمعنى رموز وإشارات لا بد أن تخضع للتأويل" ،أو كما يقول التوحيدي: "رمز وراءه رمز، وإشارة فوقها إشارة".

في هذا السياق، يلتهم العجز المعرفي والسقوط اللاواعي في عمق المحدود والجزئي إمكانات الذات المعرفية، وتنحصر علاقاتها بالحقائق الإلهية والكونية في إطار حدود الضرورة التشريعية بالمعنى السلبي لها: كعبد السوء، الذي يرجو مباهج الربوبية ونعيمها، ولكنه يضيق بأوامرها ونواهيها، ويتحايل عليها مساوماً بالعبادة الزائفة، مقايضاً على الآخرة "مقايضة عبيد الدرهم والدينار"،كما يطلق عليهم "ابن عربي".

ينطوي فضاء الغفلة على مفارقة أساسية تكمن في كونه فضاء للانتهاك، وهو دعوة لممارسة الحرية والانفلات والتمرد خارج إطار وحدود المعايير والقيم السائدة، ومن خلال وضعيتها اللاواعية والعبثية الى حد كبير، تمارس لذة الانتهاك كلذة وهمية زائفة تحول صاحبها لأضحوكة ومثاراً للتهكم والسخرية ما تجعله مصدراً للتهديد الفعلي للآخر وقيمه ومعاييره المستقرة والثابتة.

إن لذة الوهم هي لذة آمنة وفضاءاتها مليئة بالوعود الجميلة غير المكلفة، لكن الاستغراق فيها الى درجة الاستغناء بها عن اللذة الواقعية، إنما يدل على تعبير نزعة عبثية يائسة وإن كانت لا تعي يأسها وإحباطها.

لذلك، لا بد لنا أن نميز بين أوهام القطيع اليائس وسيطرة الوهم المضلل الزائف من ناحية، وبين الحلم الواعد للخيال المتمرد والخلاق والكامن في عمق تجربة الانتهاك، بوصفها تجربة تمرد إيجابي إبداعي الطابع من ناحية أخرى.


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم