الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

أنسي الحاج وليمة المُفترس الأكول

عقل العويط
عقل العويط
A+ A-

مات أنسي الحاج.


أيها الأدباء والقرّاء في لبنان والعالم العربي وفي العالم الناطق بالشعر، لا بدّ من إشهار الحقيقة القاسية، كما هي، كلبةً وعاهرةً، على غرار الحياة مطلقاً: الشاعر والكاتب والصحافي الكبير أنسي الحاج، ابن الكاتب والصحافي الكبير لويس الحاج، ربيب "النهار" من 9 آذار 1956 إلى أيلول 2003، ورئيس تحريرها لزمن، قد تدهور به المرض الأكول، إلى حدود الهلاك والعطب المستعصي.
هذه هي الحقيقة، التي يجب أن تعرفوها، وإن على وجعٍ مُهلكٍ منّا، مرفقٍ باعتذارٍ حبيب ومنسحق ومتواضع نوجّهه إلى أهله ومريديه: هذا الخطر الذي كان مفتوحاً على إلحاحات الغياب وهلوسات الموت، قد فات أوان التئامه بعد الآن. بل اليقين الأكيد هو هذا. لم يعد في مقدور هذا الذئب الشاعر أن يطيق الإقامة في كتاب الجسد المهيض.
المسألة واضحة، كما تعلمون. بل أكثر.
فأنسي الحاج وقع مريضاً بالسرطان الذي "تنبّأ" به منذ العام 1960، في مقدمة كتابه "لن".
وإذا كان، هو، قد "لوّث" اللغةَ العربية، وهسترها، وفخّخها، وفخت عذريتها برضاها، ومحقها، وسرطنها، وزلزلها، فإن السرطان الذي نغل في كبده، وأنحاء كيانه، قد لوّث الآن جسده، وهستره، ومحقه، وسرطنه، وزلزله، ممعناً فيه تيئيساً وتخريباً وقتلاً.
المسألة واضحة تماماً: لم يتمكّن الشاعر، من أن يظلّ يغضّ الطرف عن هذا السرطان الوالغ في جسده البشري البالغ الهشاشة.
وها هي النتيجة، وهي كانت محسومة سلفاً.
أيها الأدباء والقرّاء، لقد آلت نهاية الجسد إلى توقيتها الأخير: الشاعر المسرطِن الذي سرطن اللغة، وجنّنها، قد سرطنه السرطان، الذي يقهقه، ويفحش، ويُجهز.
فلنُصَب بالذهول التراجيدي، كالذهول المصابة به هذه اللغة العربية، التي فكّك، هو، مفاصلَها، وخلخلها، وعرّى أسرارها، وراود جسدها، وعربد مع روحها، ونام مع جوع حروفها وعطش كلماتها، فذهبتْ إليه، ربما لتنتقم، لكنْ لتكتشف كينونتها اللغوية المؤجلة، ولتتعرّف إلى جسمها المرجأ، ولتلاعبه، وتشمّس عنبه وزبيبه، ولترغب به، وتشتهيه، وتفضّه، وتهلوسه.
فلأغتسل، قالت اللغة، ولأُنكَح، ولأتكهرب، ولأتعهّر، ولأستلذّ، ولأُمعن، كما لم أفعل مع أحدٍ غيره.
لقد ذهبت اللغةُ العربية إلى أنسي الحاج، بملء عقلها وجسدها التاريخيين، لتلد، بعد الثأر. وتولد.
لكنّ أنسي الحاج هذا، قد أصبح مسافراً أيها السادة.
هذا المستغيث، وهو في بطن أمّه، الملعون، المعطوب بالولادة، الشيطان، الرائي، المعربد، العاهر، الماكر، المنتقم، المفتن، الهارب، اللاجئ، المختبئ، الخائف، المذعور، الكريم، المبذِّر، النقي، اللازورديّ، الشفّاف، الحالم، البريء، المجترح، الموصول بكهرباء الكون، أنسي الحاج هذا، لن يجد في جسده لغةً تؤويه بعد الآن.
أيها الأدباء والقرّاء، في كلّ مكانٍ شعري من العالم، لم يعد يُجدي الكتمان.
شأن أنسي الحاج الذي "رأى"، هو، في هذه اللحظات المهولة، شأن "الملك يموت"، شأن الملك الذي مات، رائياً موته، وكاتِباً هذا الموت، لكنْ من دون حبر.
لقد طلبنا له أن يهزم السرطان. لقد طلبنا له أن يكسر الموت.
لكن. عبثاً. لن.
فأنسي الحاج لن يقلب مائدة المرض الأكول، ليقوم يمشي بيننا، وفي كلماته، بأبّهة الذئب الشاعر. وها نحن نطلب له، إذاً، النومَ اللطيف الطويل حتى الينابيع.


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم