الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

شعراء شبان يتحدثون لـ"النهار" عن أنسي الحاج الحرّ المتمرد المعلم\r\n

المصدر: "النهار"
فاطمة عبدالله
A+ A-

يُمكن لإستراحة أنسي الحاج ألا تُشبه استراحة الشمس هذا المساء. ألا تُشبه شيئاً يُحَسّ، أو تتداوله الأيدي. كالنسيم وهو يلفح مَن يشعر بالاختناق، أو عصفور يأوي الى عشّه ويرجئ الى الغد زقزقته. نُدرك ان الرجل عذّبه المرض. مرضُ ان يحتمل الانسان الأرض ويُذعن للعيش بين التفاصيل. أفدنا نحن من استراحته، إذ جعلنا نحتاج ان نحزن. ان نحتضن خيالاً أو قصيدة. ونكتب عنا بينما ندّعي ان الموت ملاذُ التوّاق الى سكينة، وان الحياة تستمر، فيما نحن في حاجة ماسة الى البكاء رفضاً لهذا الفراق. كنا نرجو للجمال ألا يرحل، أقله في هذا الزمن. لكنه يخذلنا.
ذلك قد لا يليق بنا ان نعرّض جمال أنسي الحاج لامتحان الرثاء. ما نريده من شعراء جيل شاب، حضوره فيهم، بعدما شكّل أخيراً في وجدانهم نزعة سهّل "فايسبوك" التعبير عنها. نسأل ألفراد الخوري، لوركا سبيتي، فوزي يمين، جنى الحسن، وزهرة مروة عن معرفتهم به وتأثيره فيهم. تندفع الصور ليكتمل التجلي، وإنما للقدرة ان تخون المرء أحياناً، فيتلعثم، ويخرج القليل مقارنة بالرجل المُحتَفى بصعوده الى العلياء، الغافي مثل طفل في جوار أمّ أوصته ان يكبر على مهل.



لم أشأ أن أعرفه


رآه الشاعر ألفراد الخوري، مرة، منذ سنوات عدة، قبل عيد الميلاد بيومَين أو ثلاثة، داخلاً إلى مجمّع الـ"ABC" من الباب الخلفي. "كان الليل في الخارج، دافئاً وغريباً، وكانت تصحبه صبيّةٌ بيضاء متوسطة القدّ". أخبِرنا عن اللقاء وكأنه الآن: "الصورُ تتلاطم في رأسي، ولا أستطيع. كان لرؤيته وقعُ ظهورٍ عجائبي، من الصنف النادر والحاسم، مع كلّ ما يستتبع ذلك من ارتباكٍ وذهول!".
يُكمل: "وقفنا عند الباب. "أنا بحبّك كتير، مغروم فيك،" قلتُ له. ضحك وقال، "أنا بشكرك، رْفَعْتلِّي معنويّاتي". لوّنني الخجل. لا أعرف ماذا قلنا. ضحكنا. صافحته. واختفى. بعدها، رأيته مراراً أمام منزله في الأشرفية، قرب دير اللعازارية. ومرةً، ذات مساء غريب، مجتازاً مدخل بناية "الكونكورد" في الحمراء، ببدلته الكحليّة ورأسه المردود إلى الخلف".
لم يشأ يوماً أن يعرفه، يُتابع: "حتّى عندما همّزنا، أنا وبعض الأصدقاء، لزيارته ودعوته إلى إهدن حيث ننظّم معرضاً للكتاب كلّ صيف، لم أشأ أن أذهب". أدمَنَ "خواتم" نهارات السبت على مدى سنوات، ولا يزال يحتفظ بسبوت "الأخبار" كلّها تقريباً، "مشقوعةً يلفّها الغبار والشغف". ويذكر الأيام التي لم يكتب فيها. "الأسابيع الأخيرة من حزيران عام 2008، مثلاً. كان يأخذ عطلته السنوية في هذه الفترة من كلّ عام". يُخبرنا بأي حدة وعنف وقعتْ عليه الجملتان اللتان تفتتحان مجموعة "الرأس المقطوع": "ذهبَ غرابٌ/ يحوّم فوق المسك الممضوغ والأجناس المطفأة./ أشعل الغلامُ المطلُّ لفافة الاستمناء الكبيرة"."لا أزال أذكر معلّمة اللغة الفرنسيّة تقرأ نصّ "أين كنتَ يا سيّدي في الحرب؟"، مترجَماً إلى الفرنسية طبعاً! لا أزال أذكر افتتاح معرض الرسام الراحل بيار فرشخ في إهدن بدايات صيف 2012. يومها قالوا لنا سيأتي. انتظرناه. لكنّه لم يأتِ. عرفتُ أنّه لن يأتي. وانتظرته. لم أشأ أن أعرفه يوماً. فقد كنت ألاقيه هناك، في المدى الليلكي، في تلك اللحظة المخطوفة، "قبل أن ينام وقبل أن نستيقظ".


العفوي الخائن زوجته


كان العام 2002 حين تعرّفت اليه الشاعرة لوركا سبيتي في "النهار". تساءلت: "من أنا لأستحق كلماته؟"، إذ وجدته يُشجعّها على المزيد من القصائد المُستفزّة، مقدّماً اليها فرصة نشر بعضها، فيما هي المُبتدئة الباحثة عن فُرص. "أحَبّ شعري"، تقول، "ولا سيما تناولي الموضوعات الجريئة". حظيت سبيتي، ضمن برنامجها "صوت الشعب" على لقاء شامل وإياه في 2012. "بدا الأمر مغايراً للمُتوقَع، فلم نتكلّم في الشعر". أخرجتْهُ من اطار قصائده، الى اليتيم الذي فقد أمه، والوحيد في مرحلة المُراهقة. "خالجه شعور بالراحة بينما يتحدّث. أخبرني عن زوجة أبيه، وعنه العاشق زوجته حتى النهاية، لكنه برغم العشق خانها، ولم يتوان عن ذكر ذلك. لمسَت عفويته وهو يتفوّق في الحوار. يا له من انسان جميل، جماله في ذاته قبل ان يكتُب. لم تُخبرنا قصائده ما أردنا معرفته عنه".



لامع متمرّد شكّاك كأوغسطين


وكأنه يغفو الآن، وبعد برهة سينهض حاملاً "خواتمه" الينا. الشعراء أيضاً موتهم مُتوقّع، وليس قول الشاعر فوزي يمّين انهم "يتركون كتبهم عذابات لنا"، إلا وصفاً رائعاً. انسحب تأثره به على تحصيله العلمي، فأعدّ عن "لن" و"الرأس المقطوع" رسالة الديبلوم، وعن كتب أخرى رسالة الدكتوراه. يراه شاعر "الطريق الصعبة". انطلق من مخاض الشعر وصولاً الى الخير، ولم ينطلق يوماً من مسلمات. "عشقته كونه شاعراً تمرّد على ارث الماضي ونال الحرية بكل تناقضاتها". التقاه مرتين، وظلّ يُفضّل التعلّق به عبر شعره. يُشبّهه بالقديس أوغسطين، "الشكّاك الرافض للسائد"، ويُخبرنا كم من الليالي أمضاها في صباه يقرأ شعره لأصدقائه. يصفه بالقادر على الحاق السحر بمن حوله، بالحرّ الهدّام اللامع. وليبقى حضوره مُجسَّداً خارج القصيدة ومقاعد الجامعة، أطلق اسمه على ابنه عشقاً وتيمناً.



العارف بالشخصية من الاسم وتاريخ الميلاد!



أهدته الكاتبة جنى الحسن روايتها "أنا هي والأخريات"، ولم تتوقع ان يذكرها في كتاباته، ويشجّع صاحبتها "بكثير من التواضع، كأنني وإياه أصدقاء من قبل". تُسميه "بريئاً"، كـ"الأطفال وهم يُدهشون بما تلمحه العين". راح يتقدّم في السنّ وهو لا ينفكّ يتكلم على أشياء تذهله. تجد فيه ما يُشبهها، "ففي شعره أحاسيس ندركها من دون ان نجرؤ أحياناً على الافصاح عنها". تتذكّر حين التقته، ورآها شابة فاستغرب لمسة كآبة في كتاباتها. احتجّ: "بعدا الحياة قدّامك". نلمح في صوتها غصّة، فالراحل باغته المرض باكراً، ولو لم يفعل لكان سيُكمل بكتاباته ان يُجمّلنا. "مرة، حين التقيا، سألني عن تاريخ ميلادي، وراح يُجري حسابات لكشف شخصيتي. بدا خفيف الظلّ، عصياً على العُمر. كانت معرفتي به قبل عام ونصف العام سبباً لأذرف الكثير من الدمع الآن".



"نلتقي"


هل علينا ان نُصدّق انه رحل الآن، وألا ننتظر جديده فجر كل سبت؟ يبدو كذلك. لم تكن الشاعرة زهرة مروة واثقة من لقاء آخر سيجمعها به. التقته يوماً في "الأخبار"، وحين همّت بوداعه، وقفت على باب مكتبه مُترددة أمام الانصراف، وقالت: "نلتقي"، من دون ان تُذعن لاحتمال لقاء آخر. ثم التقيا ثانية، وكان بينهما أحاديث عبر الهاتف، منها لتقويم القصائد، ومنها "ليُهدّئ من روعي أنا الفتاة القلقة". طالما فاجأها بروحه الشابة، وتشجيعه الشعراء الجدد: "نقّح عدداً من قصائدي ومزق عدداً منها أيضاً. شعرتُ أحياناً انه يفهم مغزى قصائدي أكثر مني. لقاءاتنا المتكررة حضّتني على تطوير نفسي وأغنتني ثقافياً. اننا شعراء هذا الجيل مدينون له كونه شكّل لكتاباتنا أباً روحياً. أكاد أنهار أمام رحيله".



[email protected]
Twitter: @abdallah_fatima


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم