الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

قصتي في 2019 "نعم، أنا طرابلس"

المصدر: "النهار"
جودي الأسمر
قصتي في 2019 "نعم، أنا طرابلس"
قصتي في 2019 "نعم، أنا طرابلس"
A+ A-

*لمناسبة نهاية العام، طلبنا من الزملاء اختيار اللحظة المهنية الأكثر تأثيراً في نفوسهم خلال الـ2019، ومشاركتها مع القراء. 

نمط لاهث كان يلازمنا في توثيق الانتفاضة. بالكاد أعود من ساحة النور، وأبدأ الكتابة، تصلني رسالة من الزميلة ديانا سكيني، تقول إنّ نقلًا "لايف" قد ينطلق في غضون دقائق. أتحمّس مجدّدًا. لا مكان للتَعب حين تناديني طرابلس.

 حسناً... سألجم الحماس أيضاً في التعبير عن هذا الحماس، وأحاول توخّي الدّقّة! التعب موجود، إنما لطرابلس، لا سيما طرابلس في انتفاضتها، تتصاعد لذّة العمل بتصاعد التّعب. أجيبها عبر الواتساب، فيما أفتح باب البيت لأخرج مجدداً "هيدي طرابلس"، وبقلب أحمر ألصقته بطرابلس، أحاول أن أشرح سريعًا كيف يُنسي الحب التّعب.

مسافة السكة تعيدني لذلك الاكتظاظ الكرنفالي الذي خرق الليل. أحييه بِشاشة تليفوني مع الثوار، والباعة المتجولين الذين انفتحت أمام عرباتهم البسيطة أبواب رزق فجائي ووفير.  

أبحث عن كرسي أعتليه لأبث بانورامية المشهد. فأجد كرسيًا شاغرًا بالقرب من صبّاب قهوة، يركن مصبّاته وفناجينه على عربة. أستأذنه بالكرسي فيومئ بـ"نعم". ثم أستأذنه مرّة أخرى، لأعتلي الكرسي فتتصاعد إيجابيته "أكيد". قبل "اللايف" بثوانٍ، شئت تحرير يديّ من حقيبة يدي، فأتركها على الكرسي. ثم أهبط إلى الأرض وأتنقل للحديث مع الحشود.

بعد انقضاء البث، وما يرافقه من سكرة الممارسة الصحافية، أستعيد وعيي: أين الجزدان؟

في الساحة، لا مياه مغليّة تندلق فوق رأسي، ولا دلاء تحوي المياه. لكنّها ترسم حرفياً الشعور الذي غزاني. أخترق الحشود المتزاحمة، مع خوف يسبق خطواتي. أتفرّس بالكرسي؛ أجده خاليا. أسى على مرارة على رغبة بعدم التّصديق. تبخّر الجزدان وما يحويه الجزدان، أي المبلغ "المحرز" الذي تحمله محفظاتنا في ثاني يوم من الشهر.

بسؤال ملحّ، أسأل البائع عن جزداني فلا يجيب. منهمك بتقديم القهوة للزبائن. ينتبه إليّ رجل آخر فيناديه بصوت أعلى "اعطيا جزدانا للصحافية". أتنفّس الصعداء. يلتفت البائع إليّ، فيمدّ لي يده مع فنجان قهوة "تريد أن أساعدك؟"، أسأله. فيجيبني "هيدا الك. الله يعطيكي العافية ويقويكي". أبدأ بتناول القهوة، التي يبلغ سعرها ٢٥٠ ل.ل. أي سعر منقوشة زعتر-ترويقة في بعض الأحياء. ينحني الرجل قليلاً، ثم يلتقط جزداني الّذي حفظه في خزانة صغيرة مغلقة في أسفل العربة.

كل الأشياء أدمعت عينيّ. لكن استطعت التحقق من المبلغ الذي بقي كاملاً كما هو.

اليوم، لا أذكر من وجه هذا البائع سوى لحيته الخفيفة، وما توحيه التجاعيد بعمر ستّينيّ أو ربّما خمسينيّ نحته التعب. صحيح أنّني لم أحفظه، لكن لهذا الوجه بصمة، تطبعها قصّته. نسيت أن أسأله عن اسمه وربما اسمه المنسيّ جعل هذا الرجل انطباعًا، فكرة، نموذجًا اجتماعيًا في طرابلس تتعدّى خصوصيته حالة الفرد. قبل النّزول إلى الساحة قلت "هيدي طرابلس"، ثم أتاني التأكيد بعد قليل، بلسان حال هذا البائع الفقير، الكريم، المتعفّف "نعم، أنا طرابلس".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم