الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

مالطا ضيقة وغضبها واسع الأرخبيل الذي تحول لنموذج كوسموبوليتي في تكريم شهداء الصحافة

فاليتا - جودي الأسمر
مالطا ضيقة وغضبها واسع الأرخبيل الذي تحول لنموذج كوسموبوليتي في تكريم شهداء الصحافة
مالطا ضيقة وغضبها واسع الأرخبيل الذي تحول لنموذج كوسموبوليتي في تكريم شهداء الصحافة
A+ A-

صباح كانونيّ بارد ومشرق في فاليتا. في مقهى كوردينا العريق، حيث يفضّل البعض تناول الباستيز مع مشروب ساخن، من الصّعب أن يصمّ الزّائر أذنيه عن ضوضاء متصاعدة بقربه في شارع "الجمهوريّة"، حيث يقف المحتجون أمام قصر العدل لانتهاء تحقيق متعلق بمقتل الصحافية دافني غاليزيا. وإن كان الزّائر عربيًا، من الصّعب ألّا تستوقفه كلمة "برّا" الّتي يهتفون بها ليتنحى رئيس الوزراء جوزف موسكات، الّذي ثبت على الأقل مداراته للمرتكبين. وإن كان العربي لبنانيًّا، ستسوقه الراهنية لا محالة إلى تمرين مقارنة الاحتجاجات بين البلدين. وإن كان اللبنانيّ طرابلسيًا، أو ملمًّا باللهجة، يبتسم تلقائيًا وقد يشعر أنّه لم يطِر إلى قارة أخرى، حين تتكوّر الألف إلى واو على أفواه المتظاهرين، وهم يهتفون تارة بـ"مافيا"، وتارة بـ"مالطا".

قضية غاليزيا تنتعش مجددًا

ولادة الحراك ليست حديثة. فمنذ أكثر من سنتين إلى الوراء، سخط عارم لفّ مالطا ومدناً أوروبية في 16 تشرين الأول 2017 بعد تفجير سيارة غاليزيا وهي تقودها بالقرب من منزلها. ولم يبقَ منها سوى بضعة أشلاء وهيكل البيجو المتفحمة عند قارعة الطريق. الصحافية التي غردت قبل ساعة "هناك محتالون في كل مكان تنظرون إليه الآن، الوضع يائس للغاية"، كانت تشير إلى شبكة فاسدة كشفها ملف استقصائي كانت تساهم فيه ضمن "وثائق بنما"، تناول فضائح فساد وتبييض أموال لمقربين من رئيس الحكومة، هما مدير مكتبه كيث شمبري ووزير الطاقة آنذاك ووزير السياحة كونراد ميزي اللذان استقالا مؤخرًا تحت الضغط الشعبي.

فبعد ركود الأوضاع، فجّرت وكالة "رويترز" وصحيفة "تايمز أوف مالطا" حقيقة مفادها أن رجل أعمال مقرّباً من الرئيس، يدعى يورجن فينيش، هو المدبّر لتلك الجريمة، محاولًا حجب شراكة شمبري وميزي السرية، فضلًا عن كونه مالك لشركة "17 بلاك"، التي كانت ستصبح منفذًا لإيداع الأموال. وبعد تعثّر التّحقيقات لأكثر من مرّة، يعترف فينيش مؤخرًا بأنّ مدير مكتب رئاسة الحكومة شمبري هو الراعي الفعلي لعملية الاغتيال، فأعيد الملف إلى صلب القضايا العامة، لا سيّما بعدما نجح رئيس الوزراء العام الماضي بردّ الشّبهات عن نفسه وعن رفاقه، وتعهّد بتقديم استقالته إذا ما ثبت العكس. وهذا ما أرغم عليه موسكات اليوم، وسيسري مفعول استقالته منذ 20 كانون الثاني القادم.

مالطا ضيقة ولكن غضبها واسع. وفي هذا النطاق الصغير، يقتطع المواطنون مساحة أصغر لا تتعدى الألف متر مربع، يواصلون فيها احتجاجهم منذ 20 تشرين الثاني ضدّ رئيس الحكومة. ونجنح للتفكير بأنّ استقالته أثبتت للمالطيين أنّهم على صواب، فأضرم الحماس مجدّدًا في حراكهم الّذي نوّعوا فيه الوسائل التعبيريّة.

الروافد الإخبارية حول هذه القضية، نشطت مجدّدًا. فمثلاً، النسخة الورقية لـ"تايمز أوف مالطا" في 3 كانون الأول، تظهر لنا تخصيصها الصفحات السبع الأولى لقضية غاليزيا. نسأل إن كانت الصحافة الورقية تحافظ على هذا الاهتمام، فترسل لنا زميلة من مالطا صور الصفحات الخمس الأولى من عدد أوّل أمس، تعالج نفس القضيّة. والمواقع الاخبارية العالمية والمحلية تزوّد متصفّح غوغل بتحديثات الساعة فور نقره على زرّ News. الأمر طبيعي، كما أنّه واجب، بالدرجة الأولى واجب.

لكن الاحتجاجات المالطيّة تتجاوز صفة الحدث، فهي بمثابة تتمّة لفلسفة أو سبب وجود نقاط جذب أثرية، وشرايين عبور لها تاريخ، يقصدها كلّ زائر. ومن يدري، هذه البقعة النضاليّة مرشّحة لتشكّل الإطار المكاني لقصّة ناجحة – ونادرة - في القرن الحادي والعشرين، تقتصّ لحريّة الصّحافة! معالم وأسماء أماكن وأيضًا رواسب تاريخيّة تلتئم في توثيق المشهد، كأنّه أعدّ على خشبة مسرح خطّطَ سابقًا لديكوره، ثم جرى تأثيثه بتفاصيل مدروسة تجعله مشهدًا غير عابر.

ننقّل خطواتنا في ذلك المربّع الاحتجاجي ونستلهم العبر.

حضارات في قلب الاحتجاج.. والعكس

قبالة قصر العدل، أنشأ مواطنون ركنًا يشبه المزار، وضعوا عليه صورة غاليزيا، وأضاؤوا الشموع. بعضها مطفأ ينتظر من يشعلها، وقد يستعين بأعواد الكبريت الّتي تركها أحدهم في علبة رسمت عليها سفينة مالطية ركبت أمواج البحر. يخبرنا "ساندرو"، وهو ممرض في أحد المستشفيات وقف ليضيء شمعة، أن أوراق الإدانة الّتي تزدحم هنا، تقتلعها الشرطة باسستمرار، فيسارع النشطاء بتعليق أوراق جديدة، في توضيح لنا بعدما لفتتنا أناقة الأوراق المكشوفة على الغبار والأمطار. أسفل الصّورة، زرعت التربة بأزهار بنفسجية، وبشقائق النعمان، الّتي جعلتها الأساطير زهرة تنبت مكان رأس كل شهيد روت دماؤه الأرض. والركن كلّه مسند إلى نصب "الحصار الأعظم" الّذي وقع في القرن السادس عشر، عندما غزا العثمانيون جزيرة مالطا وحاربوا فرسان القديس يوحنا، فشيّدت ثلاثة تماثيل تخليدًا لنصرهم، يمثّل كل واحد منهم قيمة هيّأت لذلك النّصر: الإيمان، والرجاء، والشجاعة. وليس من الجديد القول بأنّها قيم يحتاج لأن يتزوّد بها كلّ محارب ينشر رسالة، سواء بالسيف أو بالقلم. تكتمل الصورة في خلفيتها، حيث تربض كاتدرائية القديس يوحنا بما فيها متحف يعرض لأعمال الرسام الايطالي الشهير كارافيجو، التي تترجم نضالات تلك البلاد، إلى فنّ باروكي.

بشاشة تلازم معظم الوجوه، وانفتاح على كل استفسار أو تعليق. امتيازات تشترك بها الشعوب المتوسّطيّة ومن المرجح أن المالطيّين فهموها وحرصوا على حفظها. لذلك، نستغرب على بعد أمتار، وجود حراسة مشدّدة على أحد القصور، في مدينة مسالمة كفاليتا. يجيبنا الحرّاس، وهم من الشّرطة المحليّة، أنّه مقرّ رئاسة الوزراء. فيتبدّد الاستغراب. وتقفز الذّاكرة إلى الليلة التي سبقت، حين كنّا حاضرين في "ساحة الحرية"، حيث اضطرّ الرئيس إلى الهروب من البرلمان من خلال مخرج لأحد الأقبية، وكذلك فعل بعض نوّابه الموالين بعدما التقطوا السيلفي وغرّدوها على حساباتهم، يستعطفون مؤيّديهم بعدما قام أكثر من أربعة آلاف محتج بحصارهم خارج البرلمان، ليس قبل أن يرشقوهم بالبيض والجزر. حتى استطاعوا أخيرًا الفرار في أنفاق وصلتهم بالValletta Ditch، عند بوابة المدينة. فنتساءل من أي باب، أو ربّما دهليز، دخل الرئيس مجدّدًا إلى قصره؟

لكن موسكات الذي كان بالمناسبة وللغرابة صحافيًا، استطاع الإفلات من حصار المتظاهرين، أو تحرير هواجسه من شبح صنّفتها بوليتيكو ماغازين بـ"ويكيليكس بمفردها"، وواحدة من "28 شخصية تحاول تغيير أوروبا"، يكفي أن يلقي نظرة من شبّاكه ليحاصره مجدّدًا هذا الجاثوم الذي تورّط بتسمينه. فقبالته، ينتصب تمثال الشاعر والفيلسوف وبالأخص الصحافي المالطي "مانويل ديمتش"، في وضعيّة توحي بالشموخ، يرفع بيسراه عاليًا الجريدة، وبيمناه يمسك بقبّعة، كأنّه يرفع القبّعة للكلمة. ليس لكونه صحافيًّا فحسب، بل لكونه صحافيّاً أفرزه فقر مدقع، حوّله أوّلًا لنشّال صغير ارتكب عشر جنح أدخلته السجن لسنوات أذاقه خلالها "المركيز بربارو"- والبلاغة في الاسم- أفظع أنواع العذاب، لكنّه بجهد ذاتي تعلّم القراءة والكتابة واللغات، وأصلح نفسه، وأطلق جريدته الأسبوعية The Flag of The Maltese، وجمعية تنشر أفكارًا تقدمية لصالح الفقير والمرأة والإنسان، ما لبثت أن أدانتها الكنيسة والاستعمار البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى، واتهماه بالعمالة لصالح ألمانيا. ثم يصاب بسكتة دماغية جعلته نصف مشلول، بعد أن راكم مؤلّفات عظيمة في المقالة والأدب واللغة والفلسفة، لتنتهي حياته منفيًا في الإسكندرية.

#كلّن_يعني_كلّن .. بالمالطيّة

إذًا، في بلدٍ متواضع على مقياس الاتحاد الأوروبي الذي لم يضمّه قبل عام 2004، ولاعب خجول على الخارطة العالميّة، من المعبّر أن يتعانق ماضي الصحافة مع حاضرها، ويشكلان للعالم إلهامًا هو بالحدّ الأدنى محاولة جدية ليُعاقَب من يغتال صحافيًا. ولا نخفي أن شكّا سريعًا، وربّما مشروعًا، انتابنا حول دوافع المتظاهرين، هل هي إرادة شعب يطالب بمسلًمات حقوقيّة تتحرك، أم إرادة شعبيّة تحيّنت قضية الصحافية للقضاء على حزب العمال الحاكم، وقلب المعادلة مثلًا لصالح معارضيه في الحزب الوطني؟ هذا الشكّ حرّكه لدينا سائق التاكسي بيتر الّذي سألناه في طريقنا عن انطباعاته، فوصف غاليزيا بأنّها تتقن الثّرثرة، بمعنى أن حتفها تبرّره "ثرثرتها". وفي محاولة لتجليس المفاهيم، يبدي السائق تحفّظه فنصمت، ويستيقظ السؤال. إلّا أن ساعات قليلة جعلتنا نوقن أن هذه الاحتجاجات لا تضمر انحيازات سياسية. ففي الّليل، وفي ساحة البرلمان، يذرّ المتظاهرون في الهواء مئات الأوراق النقدية المزيفة من فئة الخمسين أورو، محاولين تجسيد فساد السلطة وشراهتها للمال. نلتقط ورقة، ونلاحظ أن وجه رئيس الحكومة ومعاونه مطبوعان عليها. وجه ثالث احتاج لتوسيع بحثنا، إلى أن تفاجأنا بأنّه رئيس المعارضة النائب أدريان ديلا. لكن، في تعقب سيرته، يظهر بأنّ الصحافية كانت تلاحق تورّط ديلا في تبييض أموال بقيمة نحو مليون باوند، من إيجارات عقارية هي في الحقيقة أرباح مجموعة داعرة في لندن، أظهرتها بالوثائق والتواريخ على مدونتها Running Commentary بتاريخ 24 آب 2017 أي قبل أقلّ من شهرين على اغتيالها. هذا التفصيل غير الهامشي يشدّ لدى اللّبنانيّ عصب انتفاضته الرّاهنة الّتي ما انفكت تردّد "كلّن يعني كلّن"، حيث تتعدّد أشكال الفساد ولكن يبقى الفساد واحدًا، ويجمع طغمة سياسية ينتفض الشعبان ضد كافة مكوناتها.

والصحافيون، في لبنان كما في كلّ بلد، يلاحقون الحقيقة ويصنعون المعلومة ويعطون صوتًا للطبقة المقموعة أو المغمورة. وإن لم تكن الصحافة محركة للتغيير، كما هو حال مالطا، تبقى هي شريكة تغييرية. فضلًا عن أن الصحافة الّتي تصنع الحقيقة، تتصدّر اليوم أولويّات الحقيقة. مثال ساخن؟ كتاب الايطالي جيوفاني كاتيلي الصادر حديثًا، يثير نظرية مفادها أن الكاتب والصحافي الجزائري الأصل ألبير كامو، اغتيل في سيارته من قبل جواسيس KGB التابعين لجهاز الاستخبارات السوفياتي، لإخراس صوته المعادي للسوفيات. نعم، قبل أيام أيضًا أعيدت إثارة نهاية كامو، أي بعد ستين عامًا على وفاته.

ماذا يحدث على هذا الكوكب؟ صحيح أن الشهور الأخيرة تشهد احتجاجات وإنعاشًا لملفات قديمة غير مسبوقة في تزامنها، ولا في في تنوع خصوصيتها المحلية والقيميّة، من المنطقة العربية، إلى إيران، والصين وهونغ كونغ، وتشيلي... وأيضًا مالطا. لكن في مالطا، على مساحة 316 كلم مربع التي تجعلها من أصغر دول العالم، ثمة غنى وتنوع ثقافيين، يهيئانها لطرح مثال احتجاجي كوسموبوليتي، يدعّم لامشروطية حرية الرأي والتعبير- أي القضية التي تدافع عنها احتجاجاتها. بيسر وسرعة وبترتيب من الصّدف، تذكرك مثلاً أسماء الشوارع بالتجاور والتلاقح مع المغرب العربي "طريق القديس زكريا"، و"طريق المينا الكبيرة" (بتسكين الطاء). وفي المربع الاحتجاجي إياه، تستبدل كثير من الشرفات بمشربيات كان قد نقلها الأتراك إلى أزقة دمشق وطرابلس والقاهرة. بريطانيا متمترسة في تاريخها وفي الشارع نفسه عبر كابينات الهاتف الحمراء، وتأثير ينطوي على مقود السيارات لجهة اليمين، ويستوقفك أيضًا، في مركز للاستجمام، استعاضة رواده الرجال عن البرنس بالتنورة الاسكتلندية!

جبران وسمير وكل شهداء الصحافة

اليوم، تتقاطع تظاهرات مالطا لحرية الصحافة مع ذكرى ولادة جمهوريتها الخامس والأربعين في 13 كانون الأول، وانضمامها إلى مجموعة الكومونيلث البريطاني. ويعنيني كلبنانية، تزامنها مع انتفاضة لبنان. ويعنيني أكثر كصحافية، وفي "النهار" تقاطع هذه التظاهرات مع الذكرى الرابعة عشرة لاستشهاد جبران تويني وقبله سمير قصير، وقبلهما قافلة من الصحافيين الشهداء، بقيت أسماء قتلتهم محجوبة وبقوا طلقاء بدون حساب.

لروح جبران تويني، أهدي اليوم هذا المقال.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم