الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

الثورة وسقوط مفهوم العيش المشترك

المصدر: النهار
عايدة الجوهري
الثورة وسقوط مفهوم العيش المشترك
الثورة وسقوط مفهوم العيش المشترك
A+ A-

حين يتباهى الثوّار اللبنانيون بأنّ ثورتهم عابرة للطوائف، تلتمع عيونهم ببريق خاص، وتشفّ أصواتهم، ويتسرّب إلى ملامح وجوههم شعور دمث بالاعتزاز.

نفترض أنّ هذا التباهي المجبول بالفرح، يُعبّر عن شوق كامن في نفوس هؤلاء إلى التواصل والتفاعل، والاعتراف المتبادل، وعن الرغبة في الخروج من العزلة النفسية الجغرافية التي فرضتها قوة الانقسامات السياسية الطائفية المديدة، والتصالح مع سائر أجزاء الوطن التي تعمل وفق قانونها الخاص، وتتشكل كجمهوريات مستقلة بذاتها، لا تأذن، لمن لا يلتزم بشروطها، ارتيادها بأمان، فما بالك بالإقامة فيها.

إنّ هذا الشعور الإنساني، التلقائي، إنّما يعكس حاجة الأفراد الذين يعيشون في دولة واحدة، وعلى أرض واحدة، وينطقون بلغة واحدة، ويملكون ذاكرة واحدة، وهم محكومون بمصير واحد، إلى تنظيم عيشهم المشترك، على قواعد مختلفة، لا ينجح جميعهم بتعريفها.

اكتفى هؤلاء الثوار بترديد عبارات اتهامية من مثل «خوَّفونا من بعض»، «خلقوا بيننا حواجز»، «أنا لأنّي حر بقدر إتجول بكل المناطق»، أو «وحدتنا كشعب أحلى شي»، «النبطية بتسلّم على طرابلس وجل الديب، والذوق، وبيروت»، وغيرها من ساحات الثورة. والأشد تسييسًا يهتف «أنا ما بدي حقوق الطايفة بدي حقوقي»، وكم تكررت عبارة «أنا لبناني أولاً».

إنّهم بمَعنى آخر يرغبون في لا وعيهم، في الانتقال من الانتماء الضيق إلى المجموعة الطائفية المناطقية، إلى الانتماء الشامل للمجتمع.

ومن لا يُعبّر بالألفاظ عن رغبته في انتماء أرحب يتشبّث بالعلم اللبناني، يضعه تحت إبطه، وعندما يحين الوقت يرفعه، ويلوّح به، بعد أن كان هذا العلم تائهاً بين أعلام الأحزاب، وبإنشاد النشيد الوطني، بفخر وحماس، وبصوت حاد ووقور، بعد أن كان يكتفي بالوقوف والتمتمة في الأيام السالفة.

إنّ سعادةً خفية تغمر اللبناني الذي وجد نفسه فجأةً ينتمي إلى تيار شعوري وجداني فكري، عابر للطوائف، جعله يتواصل ويتناغم مع مئات الألوف من اللبنانيين، بعد أن كان أسيرَ دائرته المهنية، المناطقية، العائلية، والقروية.

يحتفي اللبنانيون بهذا الشعور الجديد الذي يُعَدّ بديهيًّا في البلدان المنتظمة، لأنّ آليات التواصل بينهم متعثرة، ما لم تكن معطلة، ولأنّ الاعتراف المتبادل ليس أمرًا معهودًا، ومألوفًا، أو مكرّسًا.

إنّ المفارقة الأساسية تكمن في قصور النظام الطائفي التحاصصي عن أداء وظيفته الرئيسة، المنذور لأجلها، وهي «ضمان العيش المشترك بإقرار العدالة الطائفية»، والقاضي بتوزيع السلطة ومواردها على الطوائف، فضلاً عن تخويل هذه الطوائف إدارة أحوالها الشخصية بنفسها، كما إطلاق يدها بإدارة سائر مؤسساتها الدينية والاجتماعية، والاقتصادية، وهذه تتمثّل كإشكاليات إضافية، على الإشكالية المطروحة.

لقد فشل هذا النظام في الوظائف الأساسية التي أوكلت إليه، فشل في إحقاق العدالة بين الطوائف، المستحيلة أصلاً، كما فشل في ضمان «العيش المشترك» بمعناه العصري العميق، واختزله بانتفاء الحرب الأهلية، والتوافق بين القوى المتحكّمة بطوائفها، على الحصص والسياسات، ولن نكرّر هنا كل ما يقال عن ارتدادات نظام التحاصص على حياة اللبنانيين العامة، والكوارث التي يتسبب بها.

إنّ التعريف المتوافَق عليه في الخطاب الفكري السياسي المعاصر حول مفهوم العيش المشترك هو «احترام الآخر والاعتراف به، والتعامل معه كندٍّ في الإنسانية والمواطنة».

ويقضي هذا التعريف عدم اختزال الإنسان ببُعده الاعتقادي الإيماني وإلغاء كافة أبعاد هويته الإنسانية الوجودية المحققة، وعدم موضعته في الحياة العامة المشتركة على هذا الأساس.

ويترتب على المفهوم الديموقراطي العملاني للعيش المشترك إشراك جميع أفراد الشعب في المسؤولية والحقوق، وانعقادهم حول أهداف اقتصادية ومالية وتنموية وتربوية وثقافية وحقوقية ونقابية وسياسية، وتبنّي وسائل وسلوكات مشتركة لتنفيذها، ما يعني بلغة أقل تجريدًا، هو الاشتراك في كل ديناميات العيش اليومي، وأشكاله، دون تمييز ومفاضلة.

هي ورشةٌ كبرى في الاتجاه المعاكس تستلزم ترميم 45 عامًا من الانشقاق الأهلي، بدأ عام 1975 ولم يفلح السلم الأهلي في معالجته.

إنّنا ما نزال في دائرة الحلم الذي أيقظته الثورة من انكفائه، وخلقت أملاً في تحقّقه التدريجي، ولكنّ التاريخ لا تصنعه المشاعر والأماني، ولا الأحلام الساكنة، بل الخطط والقرارات والأفعال.

تستدعي التجربة السياسية اللبنانية الفاشلة تفكيك مفهوم «العيش المشترك» المعمول به، تفكيكًا يؤدي إلى إحلال مفهوم مغاير لهذا المصطلح، يقوم على تحقيق «العيش المشترك» بمساواة اللبنانيين على مختلف انتماءاتهم الدينية والمذهبية والطائفية، والمناطقية، أمام القوانين، والحرص على تطبيق هذه القوانين، وعلى احترام الحريات العامة والخاصة، وعلى العدالة الاجتماعية بكل صورها، وهذه الشروط لا تتحقق في ظل «دولة طائفية» توزّع الحقوق والمواقع على أساس دين الفرد، مولّدةً حالة ضياع حقوقي، وواضعةً أعضاء الطوائف في حالة تنافس، وتربّص، وخوف، بل في ظل دولة مدنية.

إنّ التحدي الكبير الذي تواجهه هذه الثورة، لا يكمن، برأيي، في مقاومة السلطة لها بكل ما أوتيت من وسائل، وهذه صعوبة كبرى تحتاج إلى جهود جبارة، ولكن أيضًا في الاستمرار في النضال حتى تحقيق الأهداف العليا البعيدة، والتي ترتكز على تأسيس دولة مدنية، وإقناع أوسع شريحة لبنانية بالسير نحو هذا الهدف، وإلى منتهاه.

إنّ أي مطالب إصلاحية لا تسير بهذا الاتجاه، لن تجعل، برأيي، من «الثورة» ثورةً حقيقية، فالثورات تقاس بالأهداف الكبرى، البنيوية، التي تسعى إلى تحقيقها، إنّ الثورات الحقيقية هي التي تؤسس لمفاهيم بديلة، وتهدف إلى تغيير قواعد اللعبة السياسية وقلبها رأسًا على عقب.

وفي الختام، شكّلت الثورة بمكوّناتها وخطابها، نموذجًا اجتماعيًّا صارخًا عن إمكانية التضامن والالتقاء، والعمل معًا، علّها تكون فاتحةً للبنان جديد.


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم