السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

الجندر

مازن ح. عبّود
الجندر
الجندر
A+ A-

صاح أبو "الجندر" بكل قواه العقلية والجسدية: "المجد لك يا مظهر النور، يا الله، يا غفور، انظر الى عبدك نجيب الدبور". وصيحته انهضت الحيّ، فنعق الغراب، وتمرمر من كان تحت التراب خوفا من ساعة الدينونة التي اعتقد بانها وافت.

صرخة أراد أبو "الجندر" من خلالها ان يوصل صوته. وقد أحدث ثقبا في الغلاف الجوي. علّ إلهه الذي امال اذنه عنه يسمعه.

ثمّ راح الوالد النجيب في وسط هذا الصخب يبحث عن شيخه "جندر" الذي كان من مخلوقات العصر النادرة ممن يعيشون في المستقبل. بحث عنه ولم يجده. فقد كان "جندر" يزور طريدة لزوم إقناعها بمشروع سري وحيوي ومجدي يغيّر طرق حياته وحياة المستهدف حتما. فقد بدأ "الجندر" مصمما على النجاح هذه المرة. وكل المؤشرات كانت في هذا الاتجاه.

كان أبو "الجندر" يصرخ الما مفتشا عن ابنه. و"الجندر" الذي دلع كثيرا في صغره كان منهمكا في عمله السهل والممتنع. فالفلوس ان أتت يجب ان تأتي بغزارة. فمن يحب كثيرا يجني كثيرا. والذكاء هو ان تجني بغزارة دون ان تهرق نقطة عرق واحدة.

كان "الجندر" يعتقد بانّ مستقبله هو غد الكوكب. وكل شيء خلق من اجله كي يسخره وينتهكه بصفته من كبار المقربين من حكام الأرض. فمن قفاه تطلع الشمس. استرسل "الجندر" طويلا من حلم لآخر حتى أنفق نصف العمر هباء، الا هذه المرة ... أراد ان يعوّض. أراد ان يمسك اللحظة ويقفز بها الى المستقبل، فيلتهم منه ما يتمكن. كيف لا وكلّ رفقاه من كبار القوم ومن صناع القرار في بلاد الأرز.

ما اكسبته إياه السنون كان حرفة بناء وصيانة قصور الحلم. الا انّ اللحظة اليوم كانت مناسبة كي يقفز الى الواقع. قال في نفسه: "ستكون فخورا بي يا ابي". وستصبح رسائلك المائة رسالة ورسالة كتابا عظيما لابن عظيم.

وكان الأب يصرخ ويشاكس في الازقة، ويسحب من عبه عند كل مطب رسالة من رسائله الى ولده فيتلوها على من يلتقي بهم، فيصفقون. مائة رسالة ورسالة من الادب الروحي حررها نجيب الرسول لابنه المصطفى جندر من وراء البحار. لكن لا الرسائل اتلفت ولا الولد تغيّر. ف"جندر" كان ومازال لا يحب العرق من أيام آدم وحواء الا في الاقداح. مغرم هو بالكسب الكبير والسريع. مغرم بالمشروعات الخفيفة والنظيفة التي تستخرج من الناس أكبر قدر من الأموال بأقل وقت وكلفة ومجهود.

وتابع الاب ثورته وجولته بحثا عن ولده، والناس في الازقة تفرّ من امام وجه سيارته وصخب زمورها. فسيارة "ابي جندر" كانت تسير بفعل ذبذبات السائق الصوتية وصخبه.

نجح "الجندر". نجح بإقناع طريدته بالجدوى المالية لاقتلاع أشجار الزيتون الازلية من بساتينه واستخراج رملها لبيعها لمهندسي حدائق القصور. ومن ثمّ التخلص من الأرض وعرضها للبيع سليخا. نجح بمؤازرة نق النساء اللواتي رغبن بحياة أخرى في ذلك المنزل.

تمت الصفقة وتلقى "الجندر" عمولة حرزانة. ولبست الضحية الطقم. ووضعت أموالها في مصرف مرموق. وبدأ تدفق الكتل النقدية للفوائد. وقد فاقت قيمتها إيرادات الحقل من الزيوت سنويا بأضعاف. الى ان داهمت الازمة البلد. فتحوّلت الاموال أرقاما في دفتر، يفصله عنها مسافات ووديان. فعرض دفتره في الصالون. وصار الرجل يندب كرمه الى ان طارت روحه من جسده، كما سبق ففارق كرمه.

كان المشروع باكورة مشاريع "جندر" واستثماراته التي تعيد ضخ السيولة في الجيوب، والتي بدأت تنقل بلدته من عصر الزراعة الى عصر الخدمات. حلمه وشغفه جعلاه يشغل صاحب الجرافة ومالك الشحن والعامل ومهندس الحدائق، والمصرف. كما ان حلمه قتل الفلاح وبخّر الأموال وصحّر تلك المحلة. ف "مشاريع الجندر كانت وشم شيطان على صدر تلك الأرض المباركة" كما قال أحدهم.

وراح يطوّر أعماله. ويبشر ب "كينس"، وبضرورة تحرير الاقتصاد. وتحلق حوله الطامحون. فقد صار فكره مقدرا وعلاقاته بالحكام واولادهم ضمانة. وقد كان كل مقتدر في البلد له اخا. ولو لم يكن والده "نجيبا" بل رفيقا او وليدا او سميرا او جبرانا مثلا، لكان منهم. وراح يقص قصته. فهو لم يستسلم لقدره. بل جنى من دون تعب. وجد بأنّ ما من أحد يحامي عن الجبال فأنتهكها وعن مشاعات الغابات فأبادها، وعن الانهار فلوثها. اعتبر بأنّ المقالع ضحكة افواه الجبال. وسيّل المناظر في البنوك. ووجد ارض خصبة في تلك الأرض التي تصحّرت. وصار الخير العام مشاعا عاما، والارض مداسا، والسيادة إبادة، وانتهاك العناصر مباح وحلال لكل مناصر.

لم يقف في وجهه الا فريق من "المجانين الحاقدين" كما سماهم. فالمثالية فساد وافساد بحسب ما كان يردد. ومن أراد الحفاظ على الطبيعة عليه التوقف عن العيش، لانّ في بناء بيت واكل خيار وموز تأثيرات على المحيط. فراح يهددهم ويتوعدهم ان تجرأوا ووقفوا في دربه. كان يراهم من خلال عينه. وعياه كانت في السوق حيث الشراء والبيع.

واوكل الى ابي جندر مهمة ملاحقة الفئة المزعجة وازعاجها والضغط عليها لإخراجها. كيف لا وما كانوا يقومون به كان قطعا للأرزاق. و"قطع الارزاق من قطع الاعناق، وهذا لا يجوز...". فعلى "الجندر" ان يتزوج ويتكاثر ليملأ الأرض. وفي هذا مصلحة عامة.

لا ليس "جندر" حالة فريدة يا بنيّ، ولن يكون. فهو نجيب العصر وفكره ويده. حذار من "الجندر" الذي يعيش في داخل كل منّا. انه وشمة العصر والاغواء على اجسادنا. انه توقنا الى الكسب السريع والعيش بهوان والتهام العناصر وصولا الى اكل أجساد بعضنا البعض. انه الفكر الذي لا يشرع العرق الا في الاكواب. انه استهلاك كل شيء. الا فالعن شياطين السوق والعصر يا ولدي. ولا تلعن جندرا. قاوم فكره لكن تفهمه. فهو بالرغم من كل شيء اختار ان يكون رقم حساب يكبر على حساب العناصر والناس، لكن يبقى رقما مهما كبر. فلا يحيي التراب الذي فيك الا نداك على التراب.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم