الثلاثاء - 16 نيسان 2024

إعلان

فتور إعلانات القداسة في إنطاكية

مازن عبود
فتور إعلانات القداسة في إنطاكية
فتور إعلانات القداسة في إنطاكية
A+ A-

أعلن المجمع المقدس القسطنطيني في العام الحالي قداسة أناس جدد في الكنيسة الأرثوذكسية. وآخرهم كان الأرشمندريت صفروني سخاروف ــ اسكس (27 تشرين الثاني). فكأنّ بطريركية القسطنطينية تقول للمؤمنين في كل مكان بذلك أنَ ها حية وتثمر قداسة وقديسين. لكن الملفت أن الإعلانات القسطنطينية اقتصرت على الرهبان ولم تتوسع كي تشمل الراهبات أو العلمانيين. وهذا ما يدعو إلى الصلاة كي تنقشع الرؤية فيرى الآباء كل الآباء قديسين جدداً من غير الرهبان أيضاً.

الله هو القدّوس، فلذلك القداسة لا تأتي إلا لمن هم وكانوا في شراكة حقيقية معه. يعيشون الكلمة فيصرون الكلمة متجسدة.

لكن أين نحن، أين الكنيسة الأرثوذكسية في أنطاكية من كل ذلك؟

لم تجد الكنيسة في أنطاكية أو تبدو غير قادرة لسبب ما على رؤية قديسين جدد تقدمهم لمؤمنيها في غضون العقود الثلاثة الأخيرة.

أتكون الأزمة أزمة تصحّر، أم أن الموضوع موضوع عدم وضوح الرؤية بسبب مشاغل وظروف داخلية أو خارجية، أم أنه عدم قدرة ببساطة؟

ليست الأزمة أزمة تصحّر طبعاً. فثمة وجوه شعّت وشكّلت حياتها إنجيلاً. وقد رقدت. وهي لا تزال تحيا في قلوب الناس الذين يسألون شفاعتها. أعتقد أنّ الموضوع موضوع أولويات وليس حتى تعذر رؤية. قد يكون الموضوع موضوع غياب ثقة في أنفسنا وليس في نماذجنا التي تدل عن نفسها بنفسها. انشغالاتنا تصرفنا عن القيام بالمهمة الأساس التي بدونها ينتفي السبب من وجود المؤسسة الكنسية. يتوجب دراسة ما تبناه الناس وتقديمه لهم إعلانات قداسة بعد التمحيص في درس السير.

تبيان أنفسنا لأخوتنا كواحة صارت صحراء لا يجوز وغير مسموح به ولن نقبله أبداً. من غير المسموح أن نظهر أنفسنا ككنيسة ميتة تتلقى ولا تعطي. تستهلك ولا تنتج. تعيش في الطقوس وتتلهى في الصراعات والتباينات. لا يجوز أن نعلن عقمنا. فالقداسة هي العطر الذي يعطينا رائحتنا. هي اللاصق الذي يجمعنا ويضمن وحدتنا. هي الروح الذي ما زال يرشد ويصوب ويحمي ويحملنا.

الكنيسة في صربيا ورومانيا وروسيا كما في اليونان وكل مكان عاينت وأعلنت الكثير من القديسين. بشر صاروا أيقونات. عاشوا بيننا ومعنا وتقدّسوا فصاروا زينة أهلهم وهياكل الكنائس. فغصّت بأيقوناتهم المقدسة القلوب والحوائط. إنهم الدلائل بأنّ الله حيّ. وبأنه يحيا في كنيستنا ولم يهجرنا. فالقداسة شراكة الطين بالروح والبشرة بالنور. القداسة تبلغ بأنّ الباب إلى الملكوت مازال مفتوحا امام الانسان المعاصر. يقول القديسون المعاصرون لنا بانّه مازال ممكنا أن نستعيد طبيعتنا غير الساقطة فنصير أبناء لله بالتبني. مازال ممكنا أن نكون انجيلا حيا وومضة في عصر العتمات. وهذا هدف الكنيسة في أي مكان وزمان. الهدف من الكنيسة القداسة. والكنيسة جماعة القديسين وليست أي شيء آخر.

لقد شكل إعلان قداسة يوسف الدمشقي الرؤية الوحيدة لمجمعنا في نهاية العام، 1993. ومن بعد ذلك فترت لا بل توقفت المعاينة. فلا كنيستنا تصحّرت ولا غاب عنها القديسون. إلا أن أمور القداسة والقديسين ما عادت همنا. صار عندنا هموم وانشغالات أخرى. لكن لا ليس باب القداسة في أنطاكية موصوداً بشفاعات من أوجدها لرسالة، ولا هي متحفية ويابسة.

غابت أعمال لجان القداسة عن أنطاكية. وحلّت محلّ البشائر وعطور القداسة أخبار تعثر الناس ونفورها. تنتشر أخبار الخلافات والخصومات ما بين الشعب ويغيب عطر النماذج، فيتزايد الشقاق وينحسر الرجاء. القديسون هم النماذج. هم عطر الرجاء ورموز الثبات والوحدة.

لقد حان الوقت أن تستعيد أنطاكية بريقها وتكشف إرثها. فترسم أولوياتها وتعيد الاعتبار إلى نفسها. تبدأ ببساطة العمل لإعلان قديسي الناس. فهي ليست عاقراً. هي أنتجت وتنتج قديسين. الاستيراد يغني لكنّ كشف مخزوننا يحيي. لدينا كامل الثقة بقديسين من أهل الأرض، سواء أعلنت أو لم تعلن قداستهم. لدينا ثقة بأنّ هذه الأرض تزخر بأجساد تقدسها وقدسيتها. فلتنطلق الكنيسة ولنبدأ ورشة تلزم. فلا يمكن لأنطاكية أن تثبت نفسها من دون أن تعلن قداسة من تقدّسوا، فهي كانت وستبقى جماعة القديسين. لا يمكن لأنطاكية أن تستعيد أدوارها ما لم تكشف النقاب عن مكامن الحياة فيها وقديسوها هم مكامن حياتها. إرث أغناطيوس الأنطاكي ويوحنا الذهبي الفم ويوحنا الدمشقي نظم حياة لا يدركها الجفاف واليباس. القداسة تجعل أنطاكية تنتصب وتخاطب بالروح والحق القسطنطينية وروسيا ورومانيا وبلغاريا وسواها.

الناس بحاجة إلى رجاء. تحتاج الناس إلى دلائل لا بل إلى أفعال قداسة صارخة تبلغ بأنّ الأبواب مازالت مفتوحة أمامهم إلى السماوات. تحتاج الناس أن ترى النماذج قديسين. تحتاج الناس أن تتزود بالرجاء وتدرك أن كنيستها في أنطاكية حية.

الموضوع موضوع إعادة البحث عن الأهم. التهمت الأزمة الاقتصادية الكثير من المشروعات، وستلتهم الكثير من المؤسسات، ولن يبقى منها إلا ما يلزم. المطلوب اليوم تظهير مشروعات لا يلتهمها العالم وأزماته. المطلوب ما يشدد ويعزز.

شكراً لكنيستنا في القسطنطينية وروسيا وصربيا وكل الأمكنة على معاينتها القديسين. ولنصلِّ من أجل انطاكية. لنصلِّ كي تنقشع الرؤية ويتبنى الإباء من هم في يقين وضمير من عرفوهم قديسين. لنصلِّ كي لا يقال إنّ كنيستنا تصحّرت، وإنّ القداسة صارت من الماضي.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم