الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

العدسة تحزن أيضاً

شيرين صالح
العدسة تحزن أيضاً
العدسة تحزن أيضاً
A+ A-

"جيئة وذهاباً على رصيف شارع بيتنا، كنت أنتظر ما قد يحصل لمدينة سري كانيه أثناء التهديدات التركية في الساعات الأخيرة لبدء الاجتياح، تارة أحتسي القهوة التي كان يبدو طعمها غريباً، وتارة أخرى أضبط إعدادات كاميرا التصوير تحسباً لأي طارئ، اختفى ضجيج الأسواق التي كانت تنبض بالحياة، بعد أن هربت أعداد كبيرة من الأهالي إلى مدينة الحسكة والقامشلي ومناطق أخرى، بينهم عائلتي، بدت ملامح الناس كئيبة، كمسافرين إلى العدم، ووجوه الذين ظلوا في المدينة متوترة بانتظار مجهول مخيف قد يحصل في أي لحظة، بقيت في حالة الانتظار لساعات مع صديقي الصحافي أكرم صالح الذي كان التوتر يرسم ملامح وجهه، ثلاث ضربات للطائرات التركية على صوامع الصناعة كانت بداية القصف في المدينة، ارتجّت الأرض تحت أقدامنا، هرع الناس وكأنه قيام الساعة، صعدنا إلى سطح بيتنا لنقل وقائع الهجوم التركي المدعوم من الجيش الوطني السوري ضمن ما يسمى عملية "نبع السلام" على قناة كردستان 24، كانت القذائف تنهال على البيوت عشوائياً كالحمم، بعد ساعة من التصوير، أخبرنا أحد عناصر قوات سوريا الديمقراطية بمغادرة سري كانيه لأن الوضع سيزداد سوءاً، لكنني رفضت ذلك في البداية، أمر عصيب عليّ أن أتركها، إلى أن قال أكرم بنبرة عجلة "صديقي هيثم فلنغادر".

في طريق خروجنا من المدينة، ما بين الخامسة والسادسة عصراً، تجاوزت الألم الذي كان يثقل أصابعي ويمنعني من تصوير الناس الهاربة من الموت، كنت أرى الخوف يتخذ صوراً غريبة في ملامحهم، بدأت أصوّرهم في السيارات، على الدراجات النارية، في الطرق والخلاء، كل الطرق كانت مغلقة بلهيب القصف إلا الطريق إلى الحسكة، لفتح طريق هروب الأهالي من سري كانيه، وإخلاء بيوتهم من وجودهم، رأيت بعدستي ملامحهم الباكية، الكئيبة والمستسلمة، شاهدت ابتسامات الأطفال التي كنت أراها ملاذاً لحزني، للحظات شعرت أن عدسة كاميرتي كانت ترسم حزني في الوجوه التي كنت أصوّرها، وأحياناً أخرى تراءى لي أن عدستي ستغرق كل الذين يمرون عبرها بدموعي المخبّأة. قمت بعملي كمصوّر صحفي في تغطية الأحداث مع فريق العمل. أمر صعب عليّ أن أصور مأساة أحداث أنا أعانيها، أي أرى صورتي في وجوه الناس التي تظهر في التقارير التي أصورها. لم يتوقف القصف، وكأن سري كانيه وتل أبيض وقراها باتت جحيماً آخر، بعدها قام الطيران التركي باستهداف مشفى روج في المدينة، ربما لتخفيف وطأة الحقد الذي يثقل مخيلتهم، أضحت المدينة محاصرة ولم يستطع المدنيون والجرحى الذين بقوا في المدينة الخروج منها، حتى إنهم مُنعوا من اللجوء إلى المنظمات الإنسانية، وكأن المدينة لفتها النار، اللحظة التي توقفت فيها عن عملي في اليوم التي قامت القوات التركية بقصف القافلة التي تضم مدنيين من عدة مناطق في شمال شرقي سوريا لإجلائهم وإنقاذهم من الموت الذي قضى على ثلاثة من الجرحى، كنت قد جهّزت كاميرتي لتغطية الحدث، لكن القصف جعلني أعجز أمام تلك الأرواح التي تمد يد النجدة. لحظات عصيبة مررت فيها جعلت مني أخفق حزناً بالتصوير، كانت أمام مشفى مدينة تل تمر، ففي طريقي للمشفى كنت أتمنى أن لا أرى ضحايا أعرفهم لأتمكن من القيام بعملي، لكن هذه المرة بكائي منعني من التصوير عند باب المشفى، حين رأيت الضحايا الذين توفوا أصدقاء وأقرباء لي، استسلم حزني أمام أنياب العنف الذي شوّه ملامح صديقي الجميلة حين رأيته في براد المشفى، استسلم وجعي لفزع ينهش مدينتي أمام أنظار عالم يتأمل ما يحدث بعيون نائمة.

لم أستطع أن أوثّق ما كان يحدث في ذلك اليوم الذي وثّق تاريخه لاشعورياً في ذاكرتي، فالضحايا كانوا أصدقائي وأقربائي، كيف لي أن أصوّرهم وذكرياتنا الناعمة تحوم في مخيلتي؟.

لكن توثيق الحرب في سري كانيه ليس أمراً جديداً بالنسبة إلي، قمت بالتغطية بين عامي ٢٠١٢ و٢٠١٤ حين قامت كتائب من الجيش الحر وهم ٨٤ كتيبة بينهم كتيبة جبهة النصرة بالهجوم على سري كانيه. غزو حوّل المدينة الهادئة إلى صور وفيديوات تملأ شرائط الأخبار العاجلة على الشاشات. كنت أصوّر كل ما كان يحصل مع مجموعة أصدقائي من سري كانيه، وأوثّق بكاميرا ذات تقنيات بسيطة، وأحياناً بهاتفي النقال الذي كانت ذاكرته الممتلئة تتعبني، اعتدت تصوير مآسي هذه المدينة التي خانتها الإنسانية.

يؤلمني سؤال ابني غمكين عن سلحفاته الصغيرة التي نسيها في سري كانيه، وأنا الذي أتساءل عن كاميرا الديجيتال القديمة، ذات الشرائط الملفوفة على الزوم التي نسيتها، إن كانت مسروقة أم لا بعد أن نهبوا بيتنا، هي أول كاميرا أُهديت لي أثناء الهجوم الأول على مدينة سري كانيه، أتساءل إن قام هؤلاء الوحوش بحرق رواية الإخوة كارامازوف، أتذكر أنني عجزت عن شرائها بسبب ثمنها حين كنت طالباً في السنة الأولى بكلية الإعلام.

يتعبني الحاضر الموجع الذي يعيد التفاصيل التي عايشتها في سري كانيه بصورة تجعلني أتألم وأنا أتتبعها بتفكيري كلما أرى نفسي بعيداً عنها، لم أتوقع أنني سأُلحق بمخيلتي رائحة قهوة إكسبريسو التي كنت أحتسيها من صاحب الكشك الذي كان يحضرها لي في كل صباح أثناء خروجي إلى عملي".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم