الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

وجوه الانتفاضة - نرمين العويك أسست "مكتبة الثورة" في ساحة طرابلس... "هيدا بيتي"

جودي الأسمر
وجوه الانتفاضة - نرمين العويك أسست "مكتبة الثورة" في ساحة طرابلس... "هيدا بيتي"
وجوه الانتفاضة - نرمين العويك أسست "مكتبة الثورة" في ساحة طرابلس... "هيدا بيتي"
A+ A-

بعدما قلّبت في بالها طويلًا كلمات ترسم صوتها، خطّت نرمين العويك (34 سنة) بكتابة أنيقة يافطة "مع تنضيج الفورة إلى ثورة"، ونزلت بها إلى ساحة النور. ثمّ رأت أن وقوفها في السّاحة ليس كافيًا، فجلست. لكنها لم تجلس وحدها. آنستها عشرة كتب من البيت، في خيمة رفعت عليها إسم "خيمة الثّورة". زيّنتها نرمين بمزيد من اليافطات "إقرأ كي لا تُخدع"، و"ثائر يقرأ ثائر يعرف ما يريد". منذ تلك اللحظة، تكاثرت الكتب وتكاثرت العبارات، وتكاثر الرفاق الملتفّون حول المكتبة.




ألوان وكتب تصطاد القلوب

تفترش نرمين الأرض بحصائر ملوّنة، وتضع على هذه الحصائر ألواحاً خشبيّة ترتفع بضعة سنتيمترات ليجلس عليها القراء، مدّت عليها شراشف بألوان دافئة. أرائك أيضًا شغلتها بيديها ونمّقتها وهيّأتها لتصير لهم وسادة. العبارات الجاذبة للقراء، تتدلى من السقف معلّقة بخيط "خطر! أفكار حرّة" مع إشارتها الصفراء، أو عبارات عُلّقت بملاقط غسيل على واجهة الخيمة "محطّة تعبئة"، "اكتبوا في كلّ مكان" وعلم لبنان كتبت عليه اسم الخيمة "مكتبة الثورة" تخترقه الأرزة في الوسط. قلب أحمر من الكرتون ينتصب على الطاولة في الوسط، صحن كبير يقدّم حجارة زخرفتها برسم ورود بتدرّجات الباستيل، كتبت عليها لفيروز "ازرعني بأرض لبنان". فوق الصحن، دعوة للتزود "إقرأ كتابًا هنا وخُذ حجرًا للذكرى". كرتونة بيضاء طويلة دوّنت عليها نرمين النشيد اللبناني الّذي وضعت "النهار" النساء في قلبه "سهلنا والجبل منبت للنساء (بالأحمر) والرجال". لكن المادّة الأبرز في كلّ هذه التفاصيل، الكتب، تصنع طوقًا يلفّ حول جوانب ثلاثة من الخيمة، حيث مُدّت شرطانٌ تتدلى منها الكتب كقلادات نفيسة، أو كطيور ركنت إلى غصون فأرخت جانحيها واسترخت. باختصار، ركن يشتهيه البصر قبل أن يشتهيه الفكر.

تشرح نرمين لـ"النهار" بأن فكرتها ولدت غداة استقالة الحكومة، حين خبت الحيوية في بعض الساحات "بدأت الناس تتناقل سؤال "خلص، خلصت الثورة؟". كادت بعض لحظات اليأس تنال منّي، فجلست هنا مع صديقتي وسام الطيّار، نفكّر بخطوة تثبّت أرجلنا في الساحة. لأننا لا نرغب بالزحزحة من هنا، والرجوع إلى الوراء ليس خيارًا".

انضمّ إلى نرمين وصديقتها شباب محبّون للقراءة، شادي إسحق ويحيى عشماوي وسامي حدّاد، فألّفوا مجموعة مصغّرة من خمسة أفراد يتعاونون في تغذية المكتبة بكتب أحضروها من بيوتهم. تضيف نرمين بأنّ الاهتمام بالمكان يتقاسم فيه الأدوار شباب يقومون بمهام لوجستية وينقلون الأغراض، فيما تهتم الصبيتان بالمكوّن الجمالي.

بيت "نرمينة" ينتقل إلى ساحة النور

المارّ الّذي يعرف الصبيّة، قد يجنح تلقائيًا بالتفكير بأنّ هذا الفضاء الجميل كوّنته لمسات "نرمينة"، على ما تُظهِر صفحتها على الفيسبوك. فمنذ ثلاث سنوات، تتابع شريحة من الشباب باهتمام منشورات وصور نرمين العويك الفنّانة ومعلمة المدرسة، الّتي تقدّم "أشياء بسيطة تصنع بحب"، فتصنع هدايا رمزيّة من مواد بسيطة، كأكسسوارات للغرف وأساور وقلادات ومسابح وأثواب صلاة حملت توقيع "صلي وادعيلي". ولطالما جابت نرمين شوارع مدينتها بحرية وبدون ضجة، بالدراجة الهوائية الّتي زينتها بالورود والطلاء الأزرق. وكانت نرمين قد فتحت أبواب الفضاء الافتراضي على غرفة نومها، حيث تحتشد هذه التفاصيل الجمالية البسيطة: أرجوحة، مزهريات، عبارات ايجابية تقولها لنفسها فتكتبها وتعلقها وتنشرها للجميع، إضاءة ملونة هادئة، وصفات وصحون عن برنامجها الغذائي النباتي، مجسّمات لـ"جلال الدين الرومي" الّذي تولي صناعتها وتزيينها اهتمامًا يفترض ميولًا صوفية، يفترضها أيضًا انكبابها على قراءات لـ"أوشو" و"الرومي" و"ابن عربي"، فيما تعطي صائدة الأحلام (dream catcher) مقابسة مع الروحانية الهندية، تصنعها نرمين وتعلّقها في بيتها وعلى دراجتها... وفي خيمتها.



لذلك، ليس من الغريب سماع نرمين تردّد على رفاقها في مكتبة الثورة "بأمانتكن... هيدا بيتي"، قبل أن تغادر لبرهة ثم تعود محملة بكتب جديدة أو زينة صنعتها بأشيائها البسيطة.

حول الأثر، نور كثير يضيء عينيها العسليتين وهي تتحدث عن يوميات المكتبة. ترتدي فستانًا أزرق من قماش الـdenim، فيما ينسدل حجاب بلون ترابي على كتفيها. عند الأطراف، طلاء أحمر يجمّل أظافر مقصوصة بعناية، وحذاء رياضي تتزاحم عليه طبعات ورود زرقاء، لا يعيقها عن التربع معنا أرضًا، ومتابعة الحديث "هدفنا الأساس هو استثمار وقت الشباب في الساحة من خلال المطالعة"، شارحة بأنّ ثمّة أوقاتاً "ضائعة" يتضاءل فيها الحشد، فيما يفضّل البعض ألّا يترك السّاحة، فلمَ لا يأخذ كتابًا ويقرأ؟ شأن العديد من مكونات الانتفاضة الّتي هدمت أفكارًا شائعة أو صحّحت أحكامًا مسبقة عن الشّباب، أظهرت "مكتبة الثورة" أن إقبال الشباب على القراءة الورقية لا يزال بخير، الأمر الذي تؤكده نرمين "نادرًا ما نجد هذه الخيمة خالية من رواد القراءة".

أثناء الحديث، تنضمّ فتاة يافعة وتستأذن في تناول كتاب "نعم للطائفية" للكاتب العراقي محمد شكور. تبتسم نرمين ثمّ تستطرد بأنّه الكتاب الأكثر شعبية في مكتبتها، بسبب عنوانه المستفزّ، فيما الكاتب يرمي إلى عكسه. بعد قليل، نلاحظ أن شابًا ينكب على مطالعة كتاب "جريمة ولا عقاب: الحرب الأهلية اللبنانية" لجمال واكيم، كان على الأغلب تسلل بهدوء إلى الخيمة وانصرف للقراءة. وتتعدّد المشارب التثقيفية للكتب التي تزاحم هذا الفضاء، بين مقالات سياسية لأمين معلوف "الهويات القاتلة" وعلي شريعتي "دين ضد الدين"، والرواية ليوسف زيدان (عزازيل) وشعر محمود درويش (كزهر اللوز أو أبعد)، وغيرها من مؤلفات في الفلسفة والنقد الفني والسيرة.

من رواسب الطائفية إلى بدائل التنوير

يقول محمد حسنين هيكل "الاهتمام بالسياسة فكرًا وعملًا، يقتضي قراءة التاريخ أولًا، لأن الذين لا يعلمون ما حدث قبل أن يولدوا، محكوم عليهم أن يظلوا أطفالًا طول عمرهم". لعلّ فكرة "التنضيج" الّتي هجست بها نرمين العويك منذ أول الانتفاضة، تجد أصداءها في هذه المقولة، فتوسّلت الكتاب في مكتبة الثورة كأداة في عملية النضوج الفكري للشباب. علاوة على أن المنعطفات التاريخية الكبرى التي تُنمذج الثورة، كانت قد هيّأت لها طاقات فكريّة حثيثة شكّلت المعتقدات المحلية وساهمت في تمخض الانفجارات الثورية، كثورة 1789 في فرنسا، الّتي مُهّد لها زهاء قرن عرف بـ"التنوير" في كتابات وعلى ألسنة مفكرين وفلاسفة كجان جاك روسو، وفولتير وديدرو وغيرهم. في الجزائر، عرفت البلاد ولادة التيار الأدبي الفرنكوفوني الّذي سخّر أقلامه لمناهضة الاستعمار الفرنسي بلغة المستعمر أمثال كاتب ياسين ومحمد ديب وغيرهما، بالتوازي مع نشاط الجبهة الوطنية، وانفجار ثورة التحرير. هذا المناخ الفكري الثوري كان بالمقارنة خجولًا في لبنان، فيما هيمن على المشهد العام زبائنيات سياسية مرهونة دومًا بالطائفية وأحيانًا بالعشائرية..

أما اليوم، ففي طرابلس ثقافة سياسية يتناولها الشباب بإقبال غير منظور، كـ"المصل" الّذي يعينهم على الشفاء من الرواسب القديمة، أو حتّى من الفراغ الّذي لا يكون أقلّ ضررًا من تلك الرواسب. لا تُختزل مكتبة الثورة في صومعات انفرادية، بل قد يتلاقح الشباب معرفتهم في نقاشات من وحي الانتفاضة، تناولت حتّى الآن "ثورة 1958"، و"ثورات تشبهنا" على تعبير نرمين مثل "الثورة الفرنسية والثورة الجزائرية وثورات الربيع العربي"، وحلقة بحثت في نقاط القوة ونقاط الضعف عند السلطة والشعب.





ومن نافل القول إنه على ضفاف ساحة النّور، ثمّة بقعات نور وتنوير تشق طريقها في الفكر المنتفض. هذه المبادرات، وإن انتشرت عند طرف ساحة الانتفاضة، تفعّل تأثيرها في قلب الانتفاضة، بعكس ما توحي جغرافيّتها. لكن، فيما ألفت سائر الساحات اللبنانية، حلقات نقاش وتثقيف حول السياسة والتاريخ والاقتصاد، تنفرد طرابلس بـ"مكتبة الثورة". وتأتي هذه المكتبة المفتوحة بمثابة بند إضافي وجوهري في ما يشبه عقد التلزيم والالتزام التغييري الّذي حملته المدينة منذ 17 تشرين، فظلّت تطبّقه بأساليب طليعيّة ألهمت الغير. وهذا "الغير" يتخطّى لبنان، لأنّ طرابلس غدت المدينة الأولى على مستوى العالم، تحتضن مكتبة مفتوحة على فضاء انتفاضة.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم