السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

الواقع الصحي اللبناني: إختبار حقيقي للمجتمع

الدكتور فادي الجردلي■
الواقع الصحي اللبناني: إختبار حقيقي للمجتمع
الواقع الصحي اللبناني: إختبار حقيقي للمجتمع
A+ A-

يمر لبنان بمرحلة حرجة تدفع به نحو حافة الانهيار. أشعلت التحركات اللبنانية حركة احتجاجات وطنية غير مسبوقة، استجابةً للضرائب المقترحة على البنزين، التبغ، وكان آخرها استعمال تطبيق الواتساب (Whatsapp). تضخُّم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والصحية في لبنان هي الوصفة المثالية لانتاج الثورات. لقد فشل أركان الحكم في الكشف عن كل هذه العلامات الخطرة في وقت مبكّر.

بُنيت الاحتجاجات على سنوات من الإحباط والغضب من الطبقة الحاكمة التي أنتجت الفساد الفاضح وعدم الكفاءة الحكومية والقضاء على موارد البلاد، في حين أدى انعدام الأمن السياسي الناجم عن سنوات من الحروب المتعددة، ومنها الحرب الأهلية، إلى تحطيم اقتصاد منهار أساساً. فإضافة الى دَين عام مصنّف من الأعلى عالمياً، يشهد لبنان ممارسات عدم المساواة، معدلات البطالة في ارتفاع مُطّرد، أزمة النفايات معلّقة، وتغطية صحية شاملة بعيدة المنال. نواجه أيضاً تكاليف الخدمات الصحية المتصاعدة وعجزاً متزايداً في الميزانية وتغيرات ديموغرافية رئيسية وازدياد نسبة الأمراض غير المعدية، إلى تفاقم أوجه عدم المساواة التي تجلت مع وجود أزمة اللاجئين والتي جعلت لبنان يحتوي أكبر عدد من اللاجئين في العالم.

في ظل التباينات الكثيرة داخل لبنان، تحتل التحديات الصحية والإجتماعية الصدارة. إن التصدي لهذه التحديات يستلزم مقاربات جديدة وطرق تفكير متقدمة، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بصنع السياسات. إذا أردنا تحقيق أهداف تضمن قدراً أكبر من الإنصاف والعدالة الاجتماعية التي تشكل جوهر الثورة الحالية، فعلينا البدء بمعالجة السياسات الصحيَّة والإجتماعية. وعلى رغم أن النظام الصحي اللبناني قد شهد تحسينات في الآونة الاخيرة، إلا أن ترتيبات الحوكمة والتمويل وتقديم الخدمات الحالية ليست مصممة لتعزيز العدالة الصحية والإجتماعية. لا يزال الأشخاص الأكثر ضعفاً هم الأقل عرضة للوصول إلى الرعاية الصحية ذات الجودة العالية:

■ نحو نصف سكان لبنان لا يتمتعون بأي شكل من التأمين الصحي الرسمي؛ وفي حين أن التغطية الصحية تؤهل المواطنين للحصول على تغطية صحية في المستشفيات من قبل وزارة الصحة العامة، فإن الوصول إلى الخدمات غالباً ما تعوقه قضايا متعلقة بالسيطرة على تدفق المرضى، والسقوف المالية للمستشفيات، والعقبات الإدارية، والزبائنية السياسية، والمحسوبية الطائفية / الدينية، والمدفوعات الشخصية غير الرسمية، وبالتالي، تفاقم عدم المساواة بين المرضى.

■ بالنسبة الى الأفراد العاملين في القطاع العام، تنتهي التغطية الصحية عند بلوغ المستفيدين سن التقاعد (64 عاماً). وتقدّر نسبة السكان الذين تزيد أعمارهم عن 65 عماً بنسبة 7.3٪ (ومن المتوقع أن تصل إلى 21٪ بحلول سنة 2050)، ومع ذلك، في حال عدم وجود راتب تقاعدي لكبار السن، فإن ما يصل إلى 50٪ منهم قد لا يتمتعون بأي شكل من أشكال التأمين الصحي. أما عن العاملين في القطاع غير الرسمي، فتغطيتهم من الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي لا تزال ضعيفة وغير كافية.

■ الأشخاص ذوو الحاجات الخاصة الذين يشكلون 10-15٪ من السكان اللبنانيين، هم من بين أكثر الفئات المهمشة والضعيفة إذ نادراً ما تتم تلبية حاجاتهم الصحية، التي غالباً ما لا تكون من النوعية المطلوبة أو يصعب الوصول اليها.

■ الأمراض غير المعدية (مثل أمراض القلب والسرطان والسكري) تمثل 90٪ من أسباب الوفيات في لبنان، ومع ذلك، أقل من 10٪ من نفقات قطاع الصحة العامة يتم تخصيصها للرعاية الوقائية والرعاية الأولية. وفي الوقت عينه، لا يزال الإنفاق الشخصي المباشر على الصحة مرتفعا بنسبة 36.5٪ وتتحمله الأسر ذات الدخل المنخفض على نحو غير منصف.

إعادة تصور النظم الصحية

ثمة حاجة إلى نقلة رؤيوية أساسية لتجهيز النظام الصحي لمواجهة التحديات الصحية والتنموية المعقدة والمترابطة، والحد من التفاوتات الصحية والاجتماعية والاقتصادية:

إعادة توجيه النظم الصحية إلى الصحة العامة والمحددات الأوسع نطاقاً والمؤثرة على القطاع الصحي: لا يزال القطاع الصحي في لبنان نظامًا علاجيًا في غالبيته، منفصلاً عن الإيكولوجية التي تؤثر على صحة المجتمع. يجب الإبتعاد عن اعتبار الصحة كمسألة طبية تقنية فقط. بدلاً من ذلك، علينا الاعتراف ومعالجة دور السياسة والسلطة في التأثير على الوصول إلى الرعاية الصحية والنتائج الصحية. السعي الى فهم كيفية ارتباط نظم الحماية الاجتماعية (مثل مخططات لحماية ذوي الحاجات الخاصة ومعالجة البطالة ودعم كبار السن) بالتغطية الصحية الشاملة؛ ومواجهة المشاكل البيئية مثل تلوث الهواء وأزمة النفايات التي تهدد بتفاقم المشاكل الصحية الحالية وخلق مشاكل جديدة.

وضع الأدلة في قلب عملية صنع السياسات في لبنان: فشلت العديد من القوانين والسياسات في تحقيق اهدافها لأنها انبثقت إلى حد كبير من المصالح السياسية والطائفية. لذلك يجب وضع الأدلة والبراهين في صلب عمليات وضع السياسات لكي تخدم النظم الصحية والإجتماعية حاجات المواطنين. إن عدم الإطلاع على مختلف مكونات عملية صنع القرار هي أحد الأسباب وراء فشل السياسات والبرامج في تحقيق أهدافها المرجوَّة. تشكيل حكومة جديدة فرصة مهمة لوضع البحوث والأدلة في الصلب الأساسي لإدارة النُّظم الصحية والإجتماعية.

تمكين مشاركة المواطن: جسّدت الإحتجاجات في لبنان دور المواطن كعامل اساسي في التغيير، مما يشير الى ضرورة إطلاق العنان لقوة المواطنين وإعادة رسم العلاقة بين الشعب والدولة. يجب ترسيخ مشاركة المواطنين والمجتمع المدني بشكل منهجي لإطلاق العنان لتعزيز النظم الصحية والإجتماعية وتمكينهم من اتخاذ قرارات ذات أُسس اجتماعية أكثر استجابة.

تعزيز المساءلة والشفافية: ويبقى دمج آليات وأدوات محدّدة لزيادة المساءلة والحد من الفساد في جميع مستويات النظام الصحي، من الأمور الأساسية للإصلاح. في لبنان، ينتشر الفساد على نطاق واسع ويتسلّل الى جميع مستويات المجتمع بما في ذلك القطاع الصحي (من غياب مقدمي الخدمات إلى فرض مدفوعات غير رسمية، واختلاس الأموال العامة، والتلاعب بالفواتير الطبية، والعلاقات غير الأخلاقية / غير المنظمة مع ممثلي شركات الأدوية). يجب أن تأتي المساعي الإصلاحية بين تعزيز الشفافية (إدخال كل المعلومات أو العمليات غير الشفافة في مجال التدقيق العام الأدائي والمالي) بالتوازي مع تعزيز المساءلة الاجتماعية (أي العمل الذي يقوده المواطنون مثل مجالس الرقابة المجتمعية والهيئات الرقابية للمجتمع المدني، والتخطيط المشترك للموازنة ونتائج تسجيل المواطنين، ووسائل الإعلام).

إعادة هيكلة العمل الإداري وتنظيمه: بالتوازي مع المساعي الإصلاحية، يجب على الوزراء في الحكومة المقبلة إعادة هيكلة العمل الإداري في الوزارات وتنظيمه للحد من الفساد ولتمكين الوزارات من التعامل مع الشعب كمواطنين وليس كمستهلكين.

للأنظمة الصحية دور اقتصادي واجتماعي قوي في مجتمعاتنا. عندما تعاني الصحة، تليها الأهداف الاجتماعية الأخرى، مما يجعل النظم الصحية بمثابة اختبار كبير للمجتمع الأوسع نطاقاً. مع استمرار الاحتجاجات، فان تشكيل حكومة جديدة يمثل فرصة حقيقية لبناء نظام صحي حديث إذا أراد لبنان تحقيق قدر أكبر من الإنصاف والعدالة الاجتماعية.

■ رئيس دائرة الإدارة والسياسة الصحية ومدير مركز ترشيد السياسات الصحية في الجامعة الأميركية.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم