الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

"الإيرلندي": أميركا سكورسيزي في خريف عمره

المصدر: "النهار"
"الإيرلندي": أميركا سكورسيزي في خريف عمره
"الإيرلندي": أميركا سكورسيزي في خريف عمره
A+ A-

في قاعة "أوديتوريوم ليون" الضخمة التي تتسع لأكثر من ألفي متفرج، كان عرض "الإيرلندي" لمارتن سكورسيزي في إطار مهرجان لوميير السينمائي (١٢ - ٢٠ تشرين الأول). بعد أربع سنوات على تكريمه في المدينة التي شهدت بزوغ فجر السينماتوغراف على يد الأخوين لوميير وتقليده الجائزة التي تحمل اسمهما، عاد مخرج "سائق التاكسي" إلى ليون، مدفوعاً بإحساس الحبّ والاخلاص لمكان وناس وأصدقاء، فقدّم عمله المنتظر أمام جمهور متحمّس وشغوف بأفلامه. "١٨٠٠ بطاقة نفدت بثلاثين ثانية على الموقع الالكتروني"، كشف تييري فريمو، وهو يتحدّث عن العرض الاحتفالي الكبير، الذي كان الثالث في العالم بعد عرضي نيويورك ولندن، وأيضاً روما خلال مهرجانها السنوي الرابع عشر الذي غطته "النهار".

حظي سكورسيزي باستقبال الأباطرة، تحت مطر من التصفيق. لكم أن تتخيلوا ألفي شخص، سينيفيليين من الأعمار كافة، لا يتوقفون عن التصفيق وقوفاً لواحد من أعظم الفنّانين الأحياء في العالم. ينبغي القول ان "الإيرلندي" واحد من أكثر الأفلام المنتظرة، وقد تابعنا مراحل تصويره في الإعلام منذ الاعلان عن رغبة سكورسيزي في أفلمة كتابَين لتشارلز براندت وضمّ ثلاثة من أبناء عشيرته (روبرت دنيرو، جو بيشي، هارفي كايتل) إلى المشروع، مع وافد جديد إلى عالمه هو آل باتشينو. كون الفيلم إنتاج “نتفليكس" وسيُبَث على منصّته بدءاً من ٢٧ الجاري، وأنه تالياً لن ينزل إلى الصالات التجارية سوى في عروض محدودة النطاق، كان الشعور بأننا من القلة المحظوظة التي تشهد على لحظة تاريخية نادرة سائداً في تلك الأمسية.

جميلة كانت الكلمة التي ألقاها المخرج برتران تافرنييه، رئيس معهد لوميير المنظّم للمهرجان، في حقّ سكورسيزي. قال انه عشق "الإيرلندي" وتذكّر ان مارتن كان يرسل إليه من أميركا كاسيتات "في أش أس" يوم كان مشغولاً بتأليف كتابه المرجعي "٥٠ عاماً من السينما الأميركية". أما سكوسيزي، فبدا متعباً من جولته الترويجية، مُقلاً كلاماً. لم يرشقنا كعادته بسطوره السريعة المتداخلة، ولكنه قال ما يريد قوله: "كلّ عمل سينمائي هو مغامرة. مع هذا الفيلم حاولنا دفش الحدود. عندما أنجزُ فيلماً أسعى إلى أن أتعلّم عن نفسي وعن الآخرين".

لم يكن سكورسيزي ينوي إنجاز فيلم آخر عن المافيا، وتكرار تجربة العمل مع روبرت دنيرو للمرة التاسعة، خوفاً من ان تكون قد استُهلِكت ولاعتقاده بأنه لم يعد هناك جديد يقوله في هذا الشأن. الا انه عندما جاءه ذاك الذي اضطلع يوماً بدور ترافيس بيكل، بكتاب لتشارلز براندت، وجده متأثراً ومنفعلاً جداً. قرأ في عينيه رغبة صادمة. وجده وقد "ارتدى" ثوب الشخصية، مع انه بالكاد كان قد روى له القصّة. ففهم حينها ان عليه أن يخرج هذا الفيلم. هو والسيناريست الشهير ستيفن زاليان وباقي الممثّلين، سيطرت عليهم رغبة شديدة في العودة إلى أفلام المافيا والعصابات، على نسق "غودفيلاس" (١٩٩٠)، ولكن هذه المرة بهدف تناول مسألة مرور الزمن وما تؤول اليه الأحوال في خريف العمر.

كلّف "الإيرلندي" ما يقارب الـ١٦٥ مليون دولار، وتطلب إنتاجه بناء أكثر من مئة ديكور سينمائي. الحصيلة السينمائية: عمل غاية في الطموح، من ثلاث ساعات و٢٩ دقيقة.

لا يستقيم "الإيرلندي" من دون هذا الزمن الذي يتحدّث عنه سكورسيزي. فالإبحار به فوق أمواج نصف قرن من الزمن، أي منذ الخمسينات حتى مطلع القرن الحالي، يترك بصمات واضحة وأثراً غامضاً في حياة الشخصيات التي نكتشفها تباعاً، واحدة تلو أخرى، في منظومة مونتاجية تفضي بإيقاعها الجهنمي إلى الحتف المرتقب، البطيء، الذي لا فكاك منه، حيث ينتظرنا فيلم آخر، لعله أكثر أفلام سكورسيزي ميلاً إلى اليأس والاحباط، اللذين لا يمكن اصلاحهما أو تجاهلهما أو القفز فوقهما.

كلّ شيء في "الإيرلندي" يدور على روبرت دنيرو. دنيرو يجسّد شخصية فرانك شيران. انه رجل اليد، القاتل المحترف، منفّذ الأوامر، الذي يتوجّه إلى الهدف برباطة جأش. انه الإيرلندي الذي يبدأ سائقاً للتاكسي ثم تستدرجه المافيا الإيطالية التي يترأسها راسل بوفالينو (جو بيشي). الفيلم من وجهة نظر شيران، يرويها وهو في عمر متقدّم، جالساً في كرسيه، مستعيداً السبعينات التي طبعت ذاكرة السينما الأميركية. يروي فيروي، ولا يبدو على عجلة من أمره. فالحياة المستعادة بتفاصيلها الملهمة نهرٌ تصب مياهه في الجريمة والتشبيح وفرط استخدام القوة. هناك دائماً حادثة خلفها أخرى، زمن جديد يولد من زمن سابق، علينا العودة اليهما.


من المستحيل عرض أحداث الفيلم المتداخلة والمتشعبة جداً، المليئة بالتفاصيل. هذا بالاضافة إلى عدم جدوى فرضها على القارئ الذي لم يشاهده بعد. ولكن يمكن القول ان سكورسيزي يبقى طوال الخط في خدمة اسلوبيته المدهشة ولغته السينمائية، وإن ابتعد عنها في الفصل الأخير، هذا الفصل الذي يأتي كاستنتاج، حصيلة حياة كاملة، جردة حساب شاملة. هذه النهاية المفتوحة على أكثر من احتمال، والتي لا تطمح أن تكون خاتمة تقليدية.

أسلوبياً، يؤكد سكورسيزي انه لا يزال سيد إيقاع واستاذ سرد وهو في السابعة والسبعين. نجده يلعّب المَشاهد كعازف بيانو يضرب على المفاتيح بأصابعه. الرجل لم يفقد شيئاً من الـvirtuosité التي صنعت مجده. دعونا لا ننسى المساهمة القيمة للمونتيرة تلما سكونمايكر في انشاء هذه الوتيرة المشدودة طوال الوقت، حدّ ان الجمهور صفّق لها عندما ظهر اسمها في آخر الجنريك، وهذا شيء نادر. بالتأكيد، نتيه أحياناً وسط كمّ الدروب التي نجد أنفسنا أمامها، ولكن لا تمر سوى دقائق قبل أن يمسك الفيلم بيدنا لأخذنا في الاتجاه الصحيح.

تيماتيكياً، نحن في أرض نألفها جيداً. كلّ ما صنع سينما سكورسيزي عبر التاريخ يسجّل عودة مريحة إلى المقدّمة: الجريمة والاحساس بالذنب، العائلة، السلطة، الاخلاص، المغفرة، التوبة، الصداقة، الفساد، البخار المتصاعد إلى الرؤوس. هذا كله يجتمع تحت سقف واحد، داخل نصّ مؤجج بالصراعات الداخلية، ليشكّل الداعم الأساسي لدراما تسير دربها المعتاد من دون ان تلتقط أنفاسها الا في الفصل الأخير.

على مستوى الحكاية، لا يروي سكورسيزي جديداً. ما من مبالغة اذا قلتُ ان الحكاية ليست أكثر ما يشغله، بل ما تحدثه من صدى في دواخلنا، على رغم انه لا تمر لحظة واحدة على الشاشة من دون حدوث أمر ما. من خلال شخصية بوفالينو وأعوانه وعصابته، ندخل في مفهوم العائلة المافيوزية على طريقة "العراب" (في الفيلم تحيّة إلى فيلم كوبولا)، بكلّ ما لها وعليها. مشوار حياة قاسٍ، متكرر، تعبره لحظات ضحك وعزلة والكثير الكثير من الانتظار للخاتمة. لا حساب ولا محاكمة، كلّ شيء مؤجل. في المقابل، فإن شخصية جيمي هوفّا (آل باتشينو)، رئيس نقابات سائقي الشاحنات، الذي يرفع الفيلم إلى مصاف آخر، تزجّ بنا في سؤال الأخلاق والوفاء والمفاهيم المنتشرة في "الوسط"، هناك حيث تنام الضمائر والذمم والخيانات العظمى. جيمي هوفّا، ليس سوى فارس الفيلم الذي يمتطي حصانه نحو مصير محتم.

في نهاية الفيلم، يترك سكورسيزي الباب مفتوحاً كنافذة مطلة على عالم جديد "يتسرب" من دون أن تكون لأبطال العالم القديم القدرة على الانخراط فيه. لا يقفله نزولاً عند رغبة شيران. السؤال الذي يطرح نفسه: أهي دعوة للدخول إلى غرفة الرجل العجوز الذي لم يبقَ له الكثير، أم الخروج منها نحو الحرية؟ فأميركا هذه التي قاربها سكورسيزي من مختلف الجوانب، تبدو سجناً لشخصيات لا تبحث عن أي خلاص، خلافاً لحالها في أفلامه الأولى. هذا الفصل من تاريخ أميركا الذي يرينا اياه سكورسيزي في لحظة تحولاتها السياسية (اغتيال كينيدي) والاجتماعية والأخلاقية والنفسية، يرينا مدى انعدام الخيارات أمام الإنسان، من دون تجميل أيٍّ من أفعاله.

لا أخفي أنني خرجتُ من "الإيرلندي" مع طعم المرارة تحت لساني. مع هذا الإحساس بأن المعلّم النيويوركي قال كلّ شيء مختتماً الفصل الأهم من حياته كسينمائي، وانه قد يكون شبيهاً بشخصياته، يسكنها الألم والخشية والندم في خريف العمر.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم