الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

أرشيف "النهار" - ليس لأحدٍ أن يعلّمني حبّ بيروت

المصدر: أرشيف "النهار"
Bookmark
أرشيف "النهار" - ليس لأحدٍ أن يعلّمني حبّ بيروت
أرشيف "النهار" - ليس لأحدٍ أن يعلّمني حبّ بيروت
A+ A-
نستعيد في #نهار_من_الأرشيف مقالاً كتبه أدونيس في "النهار" بتاريخ 20 تشرين الثاني 2003، حمل عنوان "ليس لأحدٍ أن يعلّمني حبّ بيروت".- 1-قرأت، بحرصٍ شديد، ما كتب حول: "بيروت اليوم، أهي مدينة حقّاً أم أنها مجرّد اسْم تاريخيّ؟"(&).حَفِلَتْ بعض المقالات بأشياء كثيرة غير لائقة، وهي إهانة للحقيقة وللّغة، ولبيروت نفسها. لذلك أهملها ترفّعاً وعلوّاً. وحفل بعضها الآخر بأفكار وآراء أفدت منها كثيراً، غير أنني لا أقدر أن أناقش كتّابها، واحداً واحداً، في هذه المقالة، لا لضيق المجال وحده، وإنما لضيق الوقت كذلك. وأودّ أن أشكرهم جميعاً بأسمائهم، وفقاً لتسلسلها الأبجدي: عباس بيضون، شوقي بزيع، محمود حداد، الياس خوري، أنطوان الدويهي، جهاد الزين، طلال سلمان، وضاح شرارة، محمد علي شمس الدين، سمير عطالله، حسام عيتاني، عيسى مخلوف، عبده وازن.وسوف أعود في مقالاتٍ لاحقة إلى مناقشة بعض القضايا المهمة التي أثاروها.- 2 -لم تكن هذه المحاضرة عن واق الواق، أو عن مدينةٍ لا عمرَ لها، أنشأها المقاولون والتّجار. لا قضية لها غير مجرّد السكن. لا أفق غير مجرّد الاتّجار. كانت المحاضرة حول مدينةٍ عريقة. مدينةٍ لا أرى نفسي، بِصحّتها الكاملة، إلاّ فيها - عندما أتمرأى في مرايا العالم. مدينةٍ أعشقها. وبقوّة هذا العشق وسيطرته، لا أقدر أن أراها إلاّ جميلةً وكاملة. لا أقدر أن أتحمّل ما يُضفي عليها البشاعة، أو ما يحيل جسدها إلى مجموعةٍ من الركام. مدينةٍ لم يكتب عنها أحدٌ من أبنائها، كمثل ما كتبت عنها، شَغْفاً، وتولّهاً، واستشرافاً. فبيروت كمثل موسيقى خافته حيناً، جهيرة حيناً، تتغلغل في جميع ما كتبته، نثراً وشعراً، منذ ولدتُ فيها، كما كرّرتُ مراراً، ولادتي الثانية -شعريّاً وثقافيّاً. وباسم هذا العشق أرفض، قطعيّاً، أن يعلّمني أحدٌ، أيّاً كان، حُبَّ بيروت. إنّها وجهيَ - كلّما نهضت، صباحاً، ونظرت في المرآة، أسألها عِبْرَ وجهي: كيف أنتِ، كيف أصبحت، وماذا ستفعلين، اليوم؟ وباسم هذا العشق أرفض، قطعيّاً، أن يذكّرني بها أحدٌ أيّاً كان.وباسم هذا العشق نفسه، حاولت أن أشعل "حرباً" ثقافيةً، لعلّها تساعد في جلاء صورتها، وفي جلاء العلاقة بينها وبين أبنائها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. - 3 -أعرف أن في بيروت شعراء وفنّانين وكتّاباً ومفكّرين - نساءً ورجالاً، بارزينَ، مبدعين. أعرف أنّ فيها مهندسين ومحامين وقضاةً كباراً. أعرف أن فيها سياسيين بارعين. أعرف أنّ فيها صحافيين ورجالَ إعلام تزدهي بهم حياتنا اليوميّة. أعرف أن فيها رجالَ دينٍ يتمنّى الفضاء أن يكون شريكاً دائماً لهم في توجّههم إلى الله. أعرف كذلك أنّ في بيروت نساءً هُنّ بين أعمق نساء العالم، وأكثرهنّ بهاءً.بهذه المعرفة نفسها ساءلت بيروت ? ساهراً عليها، مستيقظاً فيها، معرّياً إيّاها لكي أحسن رؤيتها، كما هِيَ، خارج التوهّم "اللبناني"، وخارجَ اللّبْنَنَةِ البلاغيّة. لكي أرى كيف ولماذا سكتت على قتل أبنائها: أنطون سعادة، رياض الصلح، كمال جنبلاط، موسى الصّدر، بشير الجميّل، رنيه معوّض، رشيد كرامي، صبحي الصّالح، إدوار صعب، يوحنّا مارون، حسن خالد، كمال الحاج، حسين مروّه، حسن حمدان، ابراهيم مرزوق، توفيق يوسف عوّاد، سامية توتونجي، وعدد آخر كبير، يعرفهم الجميع، ويشكّلون جزءاً ضخماً من تراث لبنان، قتلوا بالرصاص، وقتل غيرهم بالهجرة، أو بالإهمال.وبهذه المعرفة ساءلت ثقافة بيروت لكي أتفهّم كيف ولماذا هي كذلك "تقتل" يوميّاً مبدعيها - جبران خليل جبران، جورج شحادة، يوسف الخال، فؤاد غابريال نفّاع، سعيد تقي الدين، ناديا تويني، ميشال شيحا، عبد الله العلايلي. "تقتلهم" بإهمال إبداعاتهم وأحلامهم: لا تحتضنها، لا تحتفي بها، كما يجدر بمدينة عظيمة. وكيف ولماذا انطفأت الشُّعَل الثقافية الخلاّقة التي مثّلتها مجلّة "المكشوف" ومجلة "شعر"، مجلّة "مواقف" ومجلّة "آفاق" ومجلّة "الآداب" وغيرها. وكيف ولماذا تواصل قتل المسرح ومؤسساته وقتل الموسيقى والفنّ إلى جانب الجامعة الوطنية والمدرسة الرسمية والعلم، في عزوف كلّي عن توفير المناخ الضروري للبحث والإبداع في مختلف الميادين، الإبداع الذي لا معنى لبيروت إلاّ بدءاً به، ومنه، وفيه، لأنه هويتها وأفقها. وكيف ولماذا تناهبَتْ ثرواتِ أهلها، في حربها الأهلية، في المصارف والأسواق - وتوحّدت فيها، في هذا كلّه، "الثورة" و"الرّجعة" في ثوب واحد. ثمّ كيف لم يُنظّم بعد نهاية تلك الحرب الطويلة المعقّدة أي مؤتمر وطنيّ لبحث أسباب قيامها وظروفها ونتائجها، ولاستخلاص العبر والدروس ورؤية المستقبل؟ وبهذه المعرفة كنت أسأل نفسي دائماً: كيف يمكن لمن يحب بيروت الكريمة، أَلاَ يزلزل ما يشوهها؟- 4 -مع ذلك، يبدو أنني أشعلت حرباً أهليّة ثقافيّة. سوء نيّة؟ سوء تفاهم؟ أم ماذا؟ما يمكن استنتاجه، وهذا هو الفاجع، أنّ حرية الرأي والنقد ليست مهدّدة من قبل السلطة بقدر ما هي مهددة من المواقع التي يُفترض فيها الكفاح من أجل حرية الاختلاف وحرية النقد. مع ذلك لن أقول: "لهم بيروتهم، ولي بيروتي". سأقول على العكس: لنا جميعاً بيروت واحدة.ربّما فهُم نقدي لبيروت فهماً تقليديّاً. ليس النقد، في تقاليدنا، أن ترجّ الأسس ذاتها، أن تَعيد النّظر جذريّاً، توكيداً لاهتمامكَ وارتباطكَ بما تنقده، ولأهميّة ما تنقده. هكذا لا تزال بيروت، كمثل شقيقاتها العربيّات، توحّد النّقدَ بالهجاء والذمَ والشّتيمة، وبالتّحقير والنّبذ. وهذه نظرةٌ ثقافيّة تصدرُ عن نظرةٍ دينية: لا يُنقَد المقدّس. وللمقدّس الغيبيّ انعكاساتٌ وصورٌ في الحياة وفي الأشياء المرئية. هكذا لا يجوز نقد المقدّس الوطني، أو الاجتماعيّ أو الأخلاقيّ أو السياسيّ. وكما أنّ النبوّة لا تُنقَد، فالمَلِكُ هو كذلك، لا يُنقَد. والسؤال هو: كيف يتبنّى هذه النّظرة تقدميو بيروت وعقلانيّوها، كما يتبنّاها رجعيّوها، تماماً؟ لكنه سؤال يقودنا إلى مشكلاتٍ أخرى، ليست هذه المقالة مكاناً لها. أن تنقد الواقع أو "الشر"، وفقاً لهذه النظرة، هو أن تمدحَ المُرتجَى، وتمجّد "الخير": ذهنيّة دينيّة - إيديولوجيّة. لا يجوز...
ادعم الصحافة المستقلة
اشترك في خدمة Premium من "النهار"
ب 6$ فقط
(هذا المقال مخصّص لمشتركي خدمة بريميوم)
إشترك الأن
هل أنت مشترك؟ تسجيل الدخول

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم