الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

يوميّات "رياض الصلح" في زمن الثورة

محمود فقيه
محمود فقيه mahmoudfaqih
يوميّات "رياض الصلح" في زمن الثورة
يوميّات "رياض الصلح" في زمن الثورة
A+ A-

يدير الرئيس رياض الصلح ظهره للمعتصمين أمام السرايا، ليس لأنه غير معنيّ وحسب، بل لعلّه تمثال رمزيّ يمثّل حال السلطة التي تدير وجهها نحو الشرق والبحر دون الناس. في ساحة رياض الصلح أناس معتصمون، هم كقدموس الصوريّ. وزّعوا هتافاتهم في كل الاتجاهات فانتشرت جنوباً وشمالاً. وعلى جانب الساحة، مبنى العويني الشهير، هناك تبسط الفضائيات العربية عدساتها، وفي الزاوية حانوت صغير يبيع القهوة. بات حانوت "عزّ" نقطة التقاء الثوار ومتجرهم الوحيد. في هذه الساحة لا يوزَّع شيءٌ بالمجان. يدفع الثوار من مالهم وصحتهم كرمى لعيون انتفاضتهم.

عند صباح كل نهار، يجتمع شبان غرب السرايا، يحضّرون سندويشات اللبنة كي يوزعوها على المتواجدين الذين باتوا ليلتهم في الساحة. وعند الظهر، تفوح رائحة الطبخ عند خيمة الشيوعيين. تحضير منزليّ لأنه الأوفر. يدعون المارة لتناول "لقمة الثورة" من سفرة عليها طبخة واحدة فقط على منوال "قدّ بساطك مدّ جريك".

في هذا المكان الذي طغى عليه الهتاف الثوريّ، يعيش المعتصمون حالة من العصامية، يدققون في أي شيء يوّزع عليهم. يشترون الماء والقهوة، ويأكلون ما تيسر، أو عبر طلب "الديلفري". ذات يوم، دخلت سيارة محمَّلة بعلب العصير، ركض المتواجدون نحوها متسائلين عن المرسِل والسبب. تكدست الصناديق على الرصيف. خمسة أيام والصناديق على حالها والفقراء يشترون شرابهم من متجرهم الصغير. ولو لم يبادر المنظمون ويوزعوها على الحضور لبقيت موجودة حتى الساعة.

هؤلاء الفقراء الذين قدموا إلى الساحة منذ ليلة الخميس في 17 تشرين، حفظوا تفاصيل وسط المدينة... هي ملكهم اليوم أكثر من الماضي. ينظّفون أرضها كل صباح ويفرزون النفايات. يبدأون صباحهم بالأغاني الوطنية الثورية. هنا ينتشر النفَس اليساري، وجدال لا يأبه له المواطن بين تروتسكي ولينين، لكنه لا يغيّر معالم الساحة التي باتت رمزاً لكل انتفاضة شعبية لبنانية.

لا يوجد مسرح في هذه المساحة الضيقة، المسرح الوحيد كان من خشب وضعه مناصرون لحزب الله ادّعوا أنهم من الثوار وتسللوا مع سيارة صوتيّات يوم الـ25 من تشرين الأول.

شهدت ساحة رياض الصلح خلال الثورة ثلاثة اقتحامات مباشرة عدا عن الاستفزازات الفردية المقصودة. ففي يوم الخميس 24 تشرين الأول، اقتحمت مجموعة من مناصري حزب الله ساحة الاعتصام، اعتدوا على المتواجدين، ولولا استقدام متظاهرين من ساحة الشهداء لكنا شهدنا نهاية الساحة. أراد المعتدون تأديب الثوار والتأكيد بأن "كلن يعني كلن والسيد أشرف منهم"، فيما أصرّ المتظاهرون بأن "كلن يعني كلن والشعب أشرف منهم". ساعات عدة والفاصل بين الطرفيّن قوات مكافحة الشغب إلى حين بدأ عدد المقتحمين يتضاءل مع الوقت حتى انسحب من تبقى منهم. يومها أنشد المقتحمون آيات الولاء لمرشد الثورة في إيران. من كان ينظر من الأعلى يلاحظ وجود متظاهرين ضد السرايا الحكومية وأمامهم قوات أمنية تفصلهم عن آخرين هم أشبه بحراس لرمز السلطة بكامل مكوّناتها.

يوم الجمعة 25 تشرين الأول، كان المشهد أعنف وفي وضح النهار، طوقت القوى الأمنية المكان ومنعت الدخول إلى ساحة رياض الصلح، دخلها حزب الله مع صوتياته كما في الليلة السابقة، حاول أنصار له متنكرون بزي الثوار أن يلعبوا دور "ديمستورا". لم ينجحوا في فرض الاستماع إلى كلمة السيد حسن نصرالله على الحضور لكون السيارة التابعة للثوار كانت تصدح بالأغاني الثورية، وكان من العقلانية أن يطفئوا أجهزة الصوت لديهم كي لا يؤدّي عكس ذلك إلى تجدد الاشتباك. وما إن أنهى السيد نصرالله كلامه حتى انسحب مؤيدوه مع مجموعة كانت تقدّم نفسها على أنها جمعية "شباب" التي ما زال أفرادها يتواجدون بين وقت وآخر، متنقلين بين رياض الصلح وساحة الشهداء.

في 29 تشرين الأول، يوم الثلثاء الثالث في عمر الثورة، كل المؤشرات كانت تدل إلى أن الرئيس سعد الحريري سيستقيل. هو اليوم المعروف بغزوة الخندق، كان جسر الرينغ هو الحدث الأبرز حينها. قدم شباب من الضاحية الجنوبية لمؤازرة شباب من محلة خندق الغميق. كان الهتاف يومها "شيعة شيعة" و"الله ونصرالله وبرّي"، والهدف كان فتح الطريق بالقوّة، هو فائض القوّة الموجود، والذي استُخدم بكل وقاحة على مرآى القوى الأمنية. لم يكتفِ الشبان من الاعتداء على المتظاهرين عند جسر الرينغ، بل توجهوا نحو ساحة رياض الصلح، هذه الساحة التي فيها من اليسار ما فيها، من الذين لديهم نفَسٌ معادٍ لإسرائيل وداعمٌ لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي ومعتنقٌ القضية الفلسطينية. كسّروا وحرقوا وضربوا واعتدوا على كبار السن والنساء حتى، قطعوا صلة رحم على مراحل ثلاث واندحروا. رتّب متظاهرو رياض الصلح ساحة اعتصامهم وأعادوا نصب خيامهم، وعاد المعتصمون إلى الساحة وهم يهتفون "الشعب يريد إسقاط النظام... كلن يعني كلن".

محجّة الثوار

لم تؤثر مشاهد العنف المفتعلة على زخم الساحة. هي أشبه بطائر الفينيق تنبعث من الرماد كل ليلة. لم تخذلنا ساحة الثورة على مدى أيام تكاد تلامس الشهر الكامل. ما زال الناس يتهافتون إليها، يمرّون على ساحة الشهداء ويتوجهون إلى بانوراما السرايا الحكومية ليهتفوا ضدّ الرموز الحاكمة، ضدّ "الحكم الأزعر"، ضد "حكم المصارف"، ضد رموز المحاصصة. قد توحي إليك الأهازيج بأن كل مَن في الساحة هم من الشيوعيين واليساريين، ولكن هذا ليس بصحيح مطلقاً. هنا يجتمع من يؤمن بالصراع الطبقي بمن لا يؤمن بوجود الطبقية. يجتمع المنسلخون عن "المجتمعات اليمينية"، وفي هذه الساحة أمهات همهنّ إعطاء الجنسية لأولادهن، وآخرون لديهم قضية أخرى. الأمر لا يدل على تناقض في التوجهات، بل هو اندماج وتناغم بين الجميع، فالحشود تردد هتافاً واحداً، تصفق وترقص على أغنية مارسيل خليفة "يا بحرية"، والكل يحيّي سوياً عكار وطرابلس والنبطية وصور وجل الديب والذوق وبعلبك والهرمل والقاع وسوق الخان... مستمرون ومتأكدون بأنهم لن يتركوا الساحات قبل تحقيق المطالب، وأن ثورتهم ليست نزهة ليوم أو اثنين كما ظنّ البعض. 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم