الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

نداء إلى العقل اللبناني

رباب الصدر - رئيسة مؤسّسات الإمام موسى الصدر التربوية
A+ A-

لطالما أسعفني الإمام السيّد موسى الصدر في بث الكلمة المناسبة في الموقف المناسب. الموقف اليوم على رصيف الشويفات، ومساء أمس كان في محطة أيتام الهرمل، وقبله في حارة حريك أو في طرابلس بل هو أي مكان... الدم واحد والجرح واحد والخنجر واحد. الكلمة المناسبة استذكرتها من نداء الإمام إلى اللبنانيين بتاريخ 7/1/1976؛ يكاد يمر أربعون عاماً، ولا تزال تلك الكلمات ترّن في عظمة الأذن، ولا يزال المشهد على حاله. لطالما اعتبرتُ نفسي محظوظة أن ساقني قدري إلى لبنان: كبرت فيه، وكبرت معه، وانتابني فخرٌ وفرَحٌ مع كلّ اسهام أو مشروع أو مدماك كان لي شرف الإسهام فيه. لم أجزع من احتلال، ولم أقنط جراء حرب أهلية مديدة، ولم يفتّ في عضدي حصارٌ ولا خطف... بل ولا تغييب. أمّا اليوم، على عتبة الـ 2014، فأكاد اختنق غيظًا وكمدًا. وعلى صدري يجثم حجم هائل من العبء والإحساس بالمسؤولية. إلى أين ننزلق؟ ومن أينَ أتتنا هذه اللامبالاة تجاه الوطن والأرض والإنسان؟ ألا من مسؤول على السَمَع؟ أتلاشى إحساس المواطنين بأهمية بلدهم، لبنان؟
الإمام موسى الصدر


إلى ذلك العقل النيّر الذي لا ينقطع عن القلب الودود،
إلى الفكر الملتزم بالضمير،
إلى ضمير لبنان الواعي، إلى الإبداع الذي أنعم الله به على الإنسان في لبنان،
إلى الجذوة التي أوقدها العليم الخبير في نفوس المثقفين والخبراء والمتفكرين والتي رعتها يد الرحمن،
إلى أساتذة الجامعات، إلى التجارب والمجرّبين،
إلى كل دماغ يرى متألمًا غسق الليل الذي غشينا،
وإلى كل قلب يحب لبنان أو الإنسان أو هما معًا،
إليكم جميعًا،
أين أنتم يا سفراء الله في الوطن من أحداث لبنان الدامية ومن اللهيب الذي يحرق الحرث والنسل ويكاد يصيب المنطقة بكاملها؟
أين أنتم؟ هل نسيتم مسؤولياتكم؟ هل تنكّرتم لفطرتكم التي فطركم الله عليها؟ هل منعكم أحد من التفكير في الحل؟ هل مُنِعْتُم من عرض آرائكم؟ هل عرضتم فرفض الوطن مقترحاتكم؟ هل تجاهلكم المسؤولون وأهملكم المواطنون فاعتبرتم التجاهل والإهمال عذرًا للاعتزال؟
على من تركتم الوطن العزيز الذي لا نملك غيره؟! هذا الوطن الفريد في نوعه. هذه الأرض التي تعكس السماء. هذه الجغرافيا التي تمثل التاريخ. هذه التربة الشفافة المبدعة كالروح، بل الروح نفسها. هذه البقعة التي امتدت إلى العالم كله فتبلور العالم فيها. هذا الإنسان الذي أراده خالقه كبيرًا فأرادوه صغيرًا، وأراده مقدامًا مؤاسيًا فأرادوه حذرًا متجنبًا آلام قومه ومصائب بني نوعه، وأراده قائدًا طليعيًا مضحيًا فأرادوه راكضًا متجاهلًا أنانيًا.
على من تركتم الوطن هذا والمواطن يا أيتها العقول المسؤولة، حتى أصبح يُحارَب في إنسانه وفي أرضه وفي رسالته وفي قوته وحتى في كرامته؟
هل اعترفتم بعقمكم -لا سمح الله- وتنازلتم لأولئك الذين حوّلوا وطن المبادرات الدائمة إلى العقيم خلال ثلاثين عامًا أو أكثر؟ هل هربتم من الرصاص والقناص وتركتم الوطن وحده في محنته غريبًا يذوب كالشمعة في ليله الأليم؟!
هل انزويتم في بريجاتكم المهددة أو بروج أوروبا العاجية تتفرجون حتى إذا سقط قريبكم أو نسيبكم في المحنة، وحتى إذا تعرضت بيوتكم للبلاء تتحركون وتتصلون بقادة المقاتلين أو بأصدقائهم أو بمن كنتم تتجاهلون وجودهم، وكنتم تترفعون عن التفكير فيهم؟
هل تشمتون؟! لا قدَّر الله، بمن؟ أو تتوقعون النهاية، لمن؟
هل سمعتم ما يقول الصديق عنكم قبل العدو؟ ألا يكفي الوطن القِبْلة عذابًا وهوانًا... إن مقتل خمسة مسلحين من منظمة الباسك يهز قصر فرنكو وحكمه ونظامه، لكن الآلام المريعة التي تحل بنا لا تهز أحدًا، بل لا يبالي أحد بها وبنا وبمدننا وجامعاتنا اللهم إلا تجار السلاح أو العدو المتربص أو الشامت.
أين أنت أيها العقل اللبناني ذو الضمير، ويا أيها الأخ في المصير ويا أيها الصديق العاقل؟
فكِّر، ادرسْ، تعمقْ، اقترحْ، اطلبْ، ألحّ، توسلْ، استنجدْ، انتقدْ، شدِّدْ، طالبْ ثانيًا وثالثًا ورابعًا... انشرْ في أوساط المواطنين اقتراحاتك، في أوساط الطلاب الذين غابوا أيضًا بدورهم عن الساحة، اشْهَدْ وأَشهِد العالم والتاريخ، وَقِفْ مع المواطن في محنته.
إن الحلول المطروحة على الساحة مع الاحترام لطارحيها -عدا البعض منها- إما طائفية والطائفية بلاء الوطن، وإما فئوية وفي تنفيذها أو القبول بها انتصار لفئة، -والانتصار الفئوي مرفوض- وإما حلول نابعة من التشنج أو التحدي وهذه تُرفض مرتين!
والحلول العادلة المحقة بحاجة إلى الإخراج الصحيح أو إلى توحيد المواقف أو تدور بما يشبه حوار الطرشان يملأ حديثها الآفاق والأنفس، والآخرون يقولون إنهم لم يسمعوا مطالب محددة أو مقترحات مدروسة. وتستمر المحاولات والهيئات والاجتماعات والاتصالات الخاصة والجانبية المليئة بالإيجابيات ثم الجمود... واستمرار المحنة.
ويحدثونك عن الخوف والخوف المتبادل ويعملون لأجل خلق خوف أكثر عند الآخرين كأنهم يبدلون العلاج بتعميم المرض.
وبكلمة، تمر على الوطن أكبر محنة في تاريخه تفوق ضحاياها الحروب، لكن الغموض في الأسباب والنتائج والأبعاد والعناصر المتفاعلة فيها من الداخل ومن الخارج يسيطر على الجو، حتى إن الطبيب والأطباء يظهرون كأنهم يزيدون في المرض.
والآن أيها العقل اللبناني الملتزم بالضمير... أناشدك بل يناشدك الوطن راجيًا أن لا يكون الوقت قد فات. أناشدك التحرك لكي تضع خطة لخروج الوطن من محنته.
فالمطلوب أن تصنع مستقبلا لا ينتهي إلى ما إنتهى إليه الماضي، مستقبلًا يضم المواطنين لا الفئات، مستقبلًا يتساوى المواطنون فيه في الحقوق والواجبات، مستقبلًا يتمكن الوطن فيه من الوقوف في وجه التحديات العالمية وأمام الاعتداءات الإسرائيلية العسكرية منها والثقافية والاقتصادية والحضارية، مستقبلًا يحفظ وينمي رسالة الوطن العالمية، ويجعل من الطوائف اللبنانية نوافذ حضارية على العالم لا دويلات متصارعة، ويمكّن كل فئة من أن تعطي الوطن لا أن تأخذ منه وتنمو على حسابه، مستقبلًا تحس كل طائفة بأنها عزيزة تعطي ولا تشعر بأنها مظلومة ومصنفة ومحتقرة، مستقبلًا يكتفي كل مواطن من دون استثناء بالوطن معتبرًا أنه خاسر لو خسر الوطن حتى لو قُدم له العالم أجمع، مستقبلًا يكون الوطن ندوة الحوار الإسلامي-المسيحي وقاعدة اللقاء الأوروبي-العربي ومختبر التفاعل الحضاري بل يكون واحة للتجربة العالمية الناجحة غدًا.
المطلوب أن تصنع غدًا يحمل الوطن فيه مشعل القضية الفلسطينية ورسالة القدس على رؤوس الأشهاد فيدخل به وبها ضمير العالم ويؤسس معه ومعها حضارة المستقبل العادلة.
المطلوب أيها العقل أن نبني وطنًا جديدًا لا يبقى فيه محروم، وأن نجنّد الكفايات الضائعة والعبقريات المهملة لرفع شأن وطن العمالقة، وطنًا يستثمر كل ثرواته المائية المهدورة ومناجمه المكتنزة، أرضه وبحره وجوه، تماما كما يعمل آحاد مهاجرينا في أرجاء العالم.
والمطلوب أيضًا أيها العقل المحب أن تضع خطة عمل لتنفيذ الحلول حتى يكون لبنان هو المنتصر، لا المسلمون ولا المسيحيون، لا الأفراد ولا الأحزاب، لا اليمين ولا اليسار بل الشعب وحده.
والمطلوب أن تفكر أو تعلن عن تفكيرك في أننا كيف نقنع الناس؟ كيف نكسب قبول الأطراف؟ ماذا نقول للمتطرفين، للموتورين، للمتضررين، ولمن فقد عزيزه؟ ماذا نهيئ للشهداء الذين سقطوا؟ وللآلام الفاجعة التي ملأت القلوب؟ ماذا نقول للعالم، لمن فقدنا ثقتهم، لمن خيبنا آمالهم، لمن رفضنا بوادرهم، لمن أسأنا إلى مصالحهم وإلى مواطنيهم؟
المطلوب إذًا، خطة تضم الفكر ووسيلة التنفيذ وأسلوب الإخراج.
فإلى العمل في الساحة أيها العقل،
أيها الضمير،
أيها الإنسان،
﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين﴾ [العنكبوت، 69].

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم