الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

عن ثورة لم يلحظها أحد

أمين عيسى
عن ثورة لم يلحظها أحد
عن ثورة لم يلحظها أحد
A+ A-

ما قام به اللبنانيّون من انتفاضة، لم يتمايز عن توجه عالمي لتخطّي القنوات التقليدية للاعتراض على سياسة معينة أو نظام برمته. فهذا الدور كان مولجًا به إلى أحزاب المعارضة والنقابات عامةً، مع تظاهرات واحتجاجات ضخمة أحيانًا.

فمنذ سقوط الاتحاد السوفياتي وتالياً اختفاء العقيدة المحورية وصعود العولمة والـ"نيوليبراليات" المحجِّمة لدور الدولة الناظمة، وزيادة التعقيدات في إدارة المجتمعات نظرًا إلى التطور الهائل التقني، خسرت الأحزاب والنقابات والإطارات التنظيمية كلّها من قدرتها على توجيه الاعتراضات وابتكار الحلول وتجسيدها.

وهذه المشهدية نراها في بلاد عدة تختلف فيها الحالات الاجتماعية والسياسية والواقع الثقافي: فرنسا، هونغ كونغ، شيلي، السودان، الجزائر، العراق...

إلا أنّ ما يميّز انتفاضة لبنان بالدرجة الأولى، هو غياب أي قيادة مركزية أو مجموعة قيادات، إلاّ بعض المجموعات التي سبق أن نادت باحتجاجات سابقة أو مجموعاتٍ ظهرت مع الانتفاضة. لكنّ كلتا المجموعتين ليس لها أي تأثير فعلي على الانتفاضة.

ويعود السبب ربّما، وللمرّة الأولى، الى خروج الناس في وقتٍ واحد وفي كلّ المناطق عفويًا، إلى ارتياب اللبنانيين من أي تنظيم، تفاديًا لتحريف أهداف الانتفاضة. وربما أيضًا هو نتيجة الفرز المناطقي الذي فرضته "الأحزاب - الطوائف" للسيطرة على مربّعاتها، فمنعت التواصل العملاني بين مجموعات المناطق.

لنتطرّق الآن إلى المسبّبات الجوهرية التي تميّز هذه الانتفاضة – لا أتحدّث هنا عن الأسباب الآنيّة التي حرّكت الناس دفعةً واحدة وهي ممارسات السلطة الزبائنية والمحاصصة وإهدار المال العام والفساد منذ 30 عامًا، إذ يمكن لهذه الأسباب أن تثير غضب أي شعب وأن ينتفض.

ما يميّز الانتفاضة اللبنانيّة هما عاملان أعطياها فرادتها وعناصر استمرارها ولو بأشكال مختلفة وتعبير مختلف للأجيال الآتية حتى تفكيك هذا النظام وإرساء دولة حديثة.

العامل الأوّل هو سقوط أحد سلاح النظام ألا وهو الفرز الطائفي والتخويف من الآخر. طبعًا ذلك لا يعني أنّ الخلافات والفروقات وكلّ أنواع التمايز اختفت، وأنّ العلاقات والمراحل الأليمة خرجت من الذاكرة؛ لكن أصبح التنوّع غنى وتضامناً، والفرز السلبي خرافة لا يصدقها أحد.

أما العامل الثاني فهو سقوط الفرز المناطقي لأنّ هذا النظام حوّل الحدود المادية إبّان الحرب الأهلية إلى حدود نفسية بين المناطق، لعزل المواطنين عن بعضهم بعضاً وإيهام ابن الشمال أنّ معاناته مختلفة ولا تعني معاناة ابن الجبل أو البقاع أو الجنوب. الا ان الثورة أوجدت صرخة واحدة مدويّة على مساحة الوطن وكسرت المربّعات الإسمنت النفسيّة، سلاح أحزاب السلطة لإنغلاق كل واحد منها على مربّعه.

هاتان الميزتان ليستا طفرة موقّتة. إنّ كسر هذين الحاجزين عمل تراكمي في النفوس؛ وعي ترسّخ تدريجًا عند المواطنين. وهو إثبات وعي رصين وعقلاني عند المواطنين الذين لطالما اعتبرتهم أحزاب السلطة "قاصرين" وفوجئت بنضجهم.

ولتأكيد ما سبق، نعود إلى الأزمات التي رافقت لبنان منذ استقلاله عام 1943: انتفاضة أو حرب كلّ 15 عامًا تقريبًا: 1958، 1975، 1988، 2005، 2019. هذا الفارق الزمني 15 عامًا، يصادف قدوم جيل جديد إلى الوعي السياسي، يرفض نظاماً مترهّلاً وغير عادل ويحاول النضال من أجل التغيير.

لكن في هذه المحطات كلّها، عدا عام 2019، إنّ الثابت واحد: المسلمون وزعماؤهم وأحزابهم في مواجهة المسيحيّين، وكلا الفريقين مدعوم من طرف خارجي.

ولتسهيل الشرح وليس لاختزاله نورد المقارنة الآتية:

عام 1958، المسلمون مدعومون من الناصرية، والمسيحيّون مدعومون من حلف بغداد والولايات المتحدة.

عام 1975، المسلمون مدعومون من الفلسطينيّين في المرحلة الأولى ومن سوريا في المرحلة الثانية وسائر العالم العربي. والمسيحيّون مدعومون في مرحلة من السوريّين ولاحقًا من إسرائيل.

عام 1988، المسيحيّون مدعومون من العراق وإسرائيل مع تراجع تدريجي لدعم هذه الأخيرة، والمسلمون مدعومون من سوريا والفلسطينيّين.

عام 2005، الشيعة مدعومون من سوريا وإيران، والمسيحيّون والدروز وأغلبيّة السُّنة من الولايات المتحدة والسعودية.

عام 2019، المواطنون من كلّ الطوائف من دون أيّ دعم خارجي، باستثناء بعض الذين حاولوا ركوب موجة الثورة؛ وأحزاب السلطة التابعة لكلّ الطوائف مدعومة من إيران وسوريا والسعودية. ونقول كلّ أحزاب السلطة مهما حاول بعضها الانسحاب من المأزق، فهذا من التكتيك السياسي ولا يمسّ الجوهر.

هذا التغيير، وهو في جوهر بناء الشخصيّة اللبنانيّة، ليس طارئًا ويُبنى عليه للمئويّة الثانية للبنان.

*منسّق الإدارة السياسيّة في "حزب الكتلة الوطنيّة اللبنانيّة"

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم