الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

في طرابلس انتفاضة متجدّدة وقلق مستجدّ "مستمرون لإسقاط رئيس الجمهورية ومجلس النواب"

المصدر: "النهار"
جودي الأسمر
في طرابلس انتفاضة متجدّدة وقلق مستجدّ "مستمرون لإسقاط رئيس الجمهورية ومجلس النواب"
في طرابلس انتفاضة متجدّدة وقلق مستجدّ "مستمرون لإسقاط رئيس الجمهورية ومجلس النواب"
A+ A-

تستمرّ ارتدادات استقالة الرئيس سعد الحريري بالتصاعد في طرابلس، يعكسها تضاعف المتظاهرين في ساحة النّور، مما يوحي بأنّ الثّورة كلّها بخير، طالما الثّورة في "عروس الثورة" بخير. هذا الانطباع، يحمل شطرًا واسعًا من الواقع. فإعادة تنشيط ساحة النّور، أعاد تنشيط الساحات في صيدا وبيروت وسائر المناطق حيث كادت الحياة تعود إلى دورتها الطّبيعيّة، لولا عودة إنتاج الغضب من طرابلس، فالتحقت الحراكات الباقية أيضًا بشعلة الثورة التي أوقدتها طرابلس، كالمايسترو، تعطي الإشارة والإلهام لبقية الساحات لتستعيد زخمها.

عودة الغضب إلى طرابلس: فعل أم رد فعل؟

التّصعيد في طرابلس تشظّى خارج الخارطة البيولوجية للثورة في ساحة النور. فالمدينة استفاقت على استمرار قطع الطرقات في المدخلين الشمالي والجنوبي، وأغلق محتجون مبنى المالية، وأغلقوا سنترال البحصاص وأخرجوا منه الموظفين. ثم وصلوا إلى مبنى دائرة التربية وأخرجوا رئيسة الدائرة نهلة حاماتي والموظفين، قبل إغلاق بوابة المبنى. عدد آخر من المحتجين انتقل إلى البنك اللبناني الفرنسي في الزاهرية وأجبروه بالتوقف عن العمل مندّدين بـ"حكم المصرف" ويهتفون لسقوطه.

الثورة أعيد تنشيطها، على شكل عصيان مدني هذه المرة. لكن الاقتراب من أرضيّة الحراك في طرابلس، يبعث القلق على مآل هذه الثّورة الّتي أطلقتها من المدينة صرخة الجياع والمحرومين في ذروة إفلاسهم المعنوي والمادي وغياب الأفق، بدون أن تستثني أحدًا من رموز السّلطة، فلوّحت منذ اليوم الأوّل "كلّن يعني كلّن"، واحتفت بنفسها طرابلس واحتفى بها الجميع لانضمامها إلى "الجمهورية اللبنانية" طواعيّة من ذاتها وغصبًا عمّن عزلها. أمّا اليوم، وبالرّغم من المدّ العددي للمتظاهرين، صار بالامكان الإفصاح عن فرز في دوافعهم. فعلى سطح الثورة تطفو شمولية الإدانة، والمحاسبة، وتجريم الفاسدين والمفسدين، ولا تزال تنضح بـ#كلن_يعني_كلن، تحت مظلّة لبنان لإعادة بناء دولته.

إلا أنّ هذه الأرضية أيضًا لم يمكن لها تجاهل، ولا لجم، ولا إنكار أصوات أخرى حرّكها الانتماء السّنيّ الّذي يجرجر معه منذ اغتيال الرئيس الحريري ذيول الخيبة والمظلوميّة المتراكمة بحقّ أبنائه. استقالة الحريري الّذي أراد تقديمها بحلّة "الصدمة الإيجابية"، تلقّت شريحة واسعة من أبناء طرابلس على أنّها تضحية قدّمها من جدّدوا تسميته بـ"بيّ السنّة"، و"كبير إبن كبير"، و"كبش فداء" الوطن الذي يدفعه السنّة وحدهم من فاتورتهم. الغوص في غور الوجع السنّيّ المزمن يحتاج سياقًا مستفيضًا. ولكن، في الأجواء حيث خبت الحريريّة السياسية منذ شهور، وبالرغم من قيام انتفاضة تطيح بالجميع، تعاطف الشارع مجدّدًا مع الرئيس سعد. فهو أوّل من استقال من رموز السلطة، وهو ابن رئيس حكومة اغتيل ولم يحاكم قتلته والّذي- ولو على نطاق هامشيّ- أقال اغتياله رئيس حكومة آخر (عمر كرامي) استجدّ الحديث مؤخرًا عن تضحياته، ليلتحق بركاب رموز السّنّة المدانين والمحاسَبين وحدهم، فيما بقيّة المواقع الّتي تذود وتدافع عن طوائفها، لا يمسّها شرّ "فهل ثورة 17 تشرين الأول تشذّ عن استهداف الطائفة السنّية وحدها؟"، سؤال واحد جاء على شكل مخاوف عديدة رصدناها من شارع طرابلس.

الاستقالة: ترحيب يشوبه خوف

على سبيل المثال، الشابة دنيا س. وهي معلّمة في مدرسة رسميّة تتردّد على ساحة التظاهرات، تقول لـ"النهار" بأنّ الاستقالة خطوة أولى على تحقيق باقي المطالب "وأهمها انتخابات نيابية مبكرة"، ولكنّها لا تحيد خوفها عن الصّورة الآتية "القادم مجهول ومخيف، لأنّ رؤوس الفساد الضخمة لم تتزحزح ولم تنهزّ". وتذهب إلى حدّ القول بأنّ "الحريري لم يعد بصفّ الفاسدين، وهذه الاستقالة جعلته يكبر في عين شارعه".

في الساعات التي أعقبت الاستقالة، بقيت الهتافات مقبولة على معيار 17 تشرين "ما منكتفي بسعد بدنا نسقط كلّ العهد"، "هنّي اكتفوا أنو نحنا خلصنا، نحنا هلأ بلشنا. كلّن يعني كلّن". وكذلك، استمرّت مؤازرة بقية المناطق برسائل وجّهت للمتظاهرين في الرينغ ورياض الصلح "نحنا ضهركن وإنتو ضهرنا ونحنا منكملأ بعض". وفي محيط الساحة، عبّر مناصرو الحريري عن دعمهم في جوقات موتوسيكلات جابت شوارع المدينة محمّلة بأعلام التيار والأعلام اللّبنانيّة، مساندَةً للحريري ولـ"وطنيّته" الّتي يتمسّك بها وبإشهارها جمهوره. ردّة فعل لا تزال تحتكم الى الواقعيّة والمتوقّع.

بين انتفاضة "المحرومين" وانتفاضة "لأجل لبنان"

لكن لم يتوقّع كثيرون ممّن تجمهروا بكثافة في المساء التّالي، بأن يصدح من "مبنى الغندور" تصريح "نحنا يا شيخ سعد ما سقطناك، نحنا سقطنا حكومة ما بتشبهك، هيي ما بتشبه شعبك. هيدي الساحة ساحتك وهيدا الجمهور جمهورك وتحيّة للجيش اللبناني". الفيديو الّذي استقطبته الشاشات الافتراضية، أعيد استقطابه مجدّدًا على رأسه كلمة “Fake” (أي زائف) بالأحمر. انحراف دراماتيكي بثّته المنصّة الّتي كانت تحشد وتنشّط هذه الثورة. معلومات مسهبة وردتنا عن التوترات المستمرة الّتي شهدتها كواليس هذه المنصّة، منذ تفعيلها. فإدارة هذه المنصّة تولّاها جنبًا إلى جنب شباب جامعي وناشط انضمّ بغالبيته لحراك "طرابلس تنتفض لأجل لبنان"، مع مجموعة من "ثورة المحرومين" الّذين تكوّنوا منذ شهور من القاعدة الشعبية والأكثر فقرًا، لاح مؤخرًا بأنّهم الأكثر غضبًا لاستقالة الحريري.

هذا الانجرار العاطفي حاول النّاشط بلال حسين مواجهته بإعادة تصويب بوصلة الحراك في طرابلس، فكتب على صفحته "جماعة المستقبل الموجودين معنا في ساحة النور أحب تذكريكم بالآتي: هذه الساحة هي التي أقالت سعد الحريري، وهذه الساحة تطالب باسترجاع الأموال المنهوبة من الحرامية (يعني كثر من جماعتكم)". ويوضح لنا بلال بأنّه حاول مع زملائه التفاوض مع نشطاء "ثورة المحرومين"، كي لا تضيع جهودهم مع "قيم بعيدة عن الثورة" على حدّ تعبيره. لكن وجهات النّظر تتعاكس باستمرار، إن لناحية مضمون الرسائل الموجّهة، أو أسلوبها. هذا التعاكس بلغ حدودًا هدد جوهر الحراك في هتافاته الأخيرة.

على ضوء الفجوة الواسعة في فهم الثورة، قرّر نشطاء "طرابلس تنتفض لأجل لبنان" أن ينصبوا منصّة ثانية لتفعيل السّاحة "ربّما لم نعرف كيفية التعاطي مع هذه الشريحة واستقطابها منذ قبل الانتفاضة"، يستدرك بلال حسين.

استمرار حتى إسقاط كلّ النظام

في كلّ وقت والآن أكثر من أي وقت، تبقى طرابلس في سباق مع الزّمن، ومفاجآته، لتأكيد هويّتها الوطنيّة وانضوائها الملتزم تحت هالة لبنان. إثبات يبدو أنّ طرابلس ملزمة بإعادة تقديمه لإعادة "لبننة" نفسها، وردّ فزاعة الإرهاب عن نفسها بعد كلّ احتكاك أمنيّ مشبوه يغضب له الشارع السنّي، من حادثة تصادم المحتجين مع الجيش في البدّاوي، إلى حادثة مكرّرة بعد أيام قليلة في ببنين، استُخدم في كلتيهما النار، سبقها المسلحون والمخربون من الحزب وحركة أمل ضد متظاهري بيروت، قبل نحو ساعتين من استقالة رئيس الحكومة.

دقيقتان في ساحة النّور صباح الخميس تعطيان خلاصة مشهد طرابلس اليوم. شابُّ يترجّل وسط حلقة من المتظاهرين، يصرخ بصوت أجشّ "نحن رجال السّنة، رح نورجيهم مين نحنا"، "ببيروت ما يسترجوا يضربوهن، شاطرين بس علينا"، ويهتف بكلمات غير مسموعة توحي بأنّه باقٍ ولو بمفرده لإسقاط كلّ رموز السلطة. تترافق صرخاته مع مشهد استعراضي، يبدأ خلاله بخلع بلوزته "ال Polo"، فتظهر أوشام كثيرة على بدنه لم تكن تنكشف سوى عن الرّقبة. ينفعل ويتوعّد وسط حلقة من المتظاهرين الّذين يقفون بصمت واجم، فيما مذيع من تلفزيون "الحرة" يتهيّأ للانقال للبثّ المباشر، نظره شاخص نحو الكاميرا. يخترق السيد الياس خ. الحلقة ويتحدّث إلى شباب من "حرّاس المدينة" همسًا، يدعوهم لنقل الشّاب جانبًا لأنّ السّاحة ستنتقل "على الهواء" بعد قليل. في خلفيّة الحشد، يتسلّق عمّال "مبنى الغندور"، لطلاء العلم اللبناني على واجهته الكاملة، مع عبارة "طرابلس مدينة السلام"، علّقوا أدناها يافطة "مستمرّون لإسقاط رئيس الجمهورية ومجلس النواب".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم