الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

الصورة التي عرّت الهمجية... الثورة أنثى

المصدر: "النهار"
شربل بكاسيني
شربل بكاسيني
الصورة التي عرّت الهمجية... الثورة أنثى
الصورة التي عرّت الهمجية... الثورة أنثى
A+ A-

بهمجية بالغة وبربرية لا تمثّل سوى صاحبها، هجم شبان حزبيون من الخندق الغميق على المتظاهرين العزّل في وسط بيروت، يهتفون باسم الرئيس نبيه برّي والسيد حسن نصرالله، يحطّمون الخيم، يمنعون الصحافيين من نقل الحدث، ربما لأن المعتدي يدرك بينما هو آخذٌ في همجيته الخزي الذي يتربّص به، ويضربون الشبان والشابات، النساء كما الرجال. قد يعتبر البعض أن ما جرى تعبير عن حنق ودعم لما يعتبرونه "خط أحمر"، وأنّه أتى نتيجة "فورة خلق". لكن الأمر يتعدّى التخريب والانتفاض المضاد إلى المساس بالمرأة! فما زال بعض الذكوريين يعمدون إلى الاستقواء على المرأة التي ما برحت ضحية ضراوة الدفاع عن سطوة الذكورية.

اختصرت هذه الصورة سريالية المشهد. عرّت الهمجية، وانتشرت بسرعة على مواقع التواصل الاجتماعي. تظهر شابة مهرولةً هرباً من شاب، عاري الصدر، من أولئك الذين انهالوا على متظاهري وسط بيروت بالضرب والترهيب. تشاطرت ومئات النساء الأخريات اللواتي شاركن بالانتفاضة أمس في ساحتي رياض الصلح والشهداء لقب "فريسة" الذكورية التي تتسلّح بالقوة والعنف لتنصيب أشباه الإنسان رجالاً. وبالرغم من تعميم اسمه على المنصات الالكترونية، إلّا أن الأجهزة الأمنية لم تحرّك ساكناً بعد لملاحقته. تهجّم على المرأة، زرع الرعب في نفسها و"تمرجل" عليها. يحاول بعري صدره تعويض بعض الرجولة التي تنقصه. غداً، ربما ينساه الشارع، ربما يؤنّبه ضميره، لكنّ الأكيد أنّ هذه الشابة أصبحت بدورها رمزاً للثورة، ومثالاً حيّاً على وحشية الذكورية ومنتهجيها.

أثبتت المرأة أنها "قدّها وقدود"، وأن "الثائرات هنّ الجميلات". خلال الثورة، سعت المرأة اللبنانية الى التحرّر من سطوة النظام الأبوي المقيت القائم على الذكورية التي تحتّم على الأنثى سيرورة منزّلة، محكمة الإغلاق، منذ ولادتها وحتى وفاتها، محاولاً بذلك، من خلال خلع عباءة البطريركية عليها، إرغامها على البقاء تحت سلطة ضابط الكل، الرجل. أثبتت نساء لبنان اللواتي دافعن عن حقوق الانسان جهراً وشاركن في الندوات والجلسات المفتوحة التي تناقش الثورة وأبعادها، كما ساهمن في تنظيف الساحات وفرز النفايات وتحضير الطعام للمحتجّين، أن الثورة تليق بالأنثى، تنسجم وإياها، وتتوافق وماهية المرأة. أثبتت نساء لبنان أنّ "الثورة أنثى" وأن مصير المرأة ليس الخنوع للظلم.

في الليلة الأولى للانتفاضة، تحولت ملاك علوية إلى رمز حين واجهت الحرس المدججين بالأسلحة. تمرّدت. ركلت أحدهم برجلها. والمهم "لم يرفّ لها جفن". سيكولوجياً، لم يمرّ الموضوع مرور الكرام. لا يعلم أحدٌ سواها ما الشعور الذي اعتراها قبيل الضربة وبعيد الانتصار. أخوف، أم تردّد، أم فرح، أم نشوة النصر؟ ما يعني الشارع والثوار أنّ انتفاضتهم بات لها رموز جريئة يحتذى بها.

ترى الباحثة في علم الاجتماع الدكتورة فهمية شرف الدين أن "الاحتجاج الهادئ الذي انتهجته النساء سابقاً قد تلاشى مع بداية الانتفاضة". زمن الحديث عن الحقوق المدنية من المكاتب انتهى. ما يسترعي انتباهها هو أنّ "الغالبية العظمى من المتظاهرات هنّ في سنّ التكوّن"، ومع ذلك، "أقوالهن تجاوزت ما قد توصّلت إليه الأجيال السابقة المطالبة بالحقوق عينها". تتكلّم شرف الدين على الحداثة في الخطابات. تبدي أيما إعجاب بكلامهنّ "البديع". جرأتهنّ تثير في نفسها حماساً ورضىً، "يتكلّمن عن التغيير، عن السياسة والاقتصاد، عن الدستور والقوانين، عن المساواة والحقوق المدنية وغيرها". كلّ هذا غاب في كثيرٍ من الأحيان عن خطابات جيل شرف الدين. يبقى "ظهور الوجه القاسي للمرأة، تلك التي تثابر وتناضل في سبيل التغيير، إلى جانب الأنوثة النمطية" أهم ما نتج عن الانتفاضة بالنسبة إليها. تعتبر أن "نسبة الوعي قد ازدادت والتغيّر الحاصل في البيئة العالمية أدّى دوراً هاماً في إرساء ركائز الثورة النسائية، لكن الأهم هو أن النساء اخترن المساواة والاتجاه نحو الانتفاض". مهمة الجيل القديم كانت أصعب، ولطالما تحكّمت بالمرأة البيولوجيا والموقع في العائلة و"سجن الأحوال الشخصية"، وهم من مهد الطريق أمام ثائري اليوم، و"احتضن الجيل الجديد الأفكار التي ناضل أسلافهم من أجلها". أمام مشهد مطالبة الرجال والنساء بحقوق المرأة المدنية في الانتفاضة، تستذكر شرف الدين المصلح الاجتماعي قاسم أمين والكاتب رفاعة الطهطاوي المصريين وغيرهما ممّن طالبوا بتعليم المرأة وخلاصها من سطوة الذكورية.

تتالت الأحداث وتسارعت دون تخطيط أولي. العفوية سمة الانتفاضة اللبنانية. في حالةٍ كهذه قليلة هي الوجوه المألوفة التي تنتزع الضوء من الثوار وتقف تحته. بقيت الساحة شبه خالية للمدنيين المنتفضين على واقعهم للتعبير الحر. الحرية سمة أخرى من سمات الانتفاضة. توالت الوجوه الأنثوية مع توالي الأيام والأحداث. نساء لبنانيات يشاركن في الإبقاء على حماوة الثورة وعلى قوة الإعصار. نظّفن، طهون، رفعن الصوت، شاركن في الندوات والاجتماعات وفي الحوارات التي تناولت الانتفاضة وأبعادها، وتمرّدن. أجمل ما فيهنّ أنهنّ لا يكترثن بالتسويق لأنفسهنّ على أنهن "ماريانات" لبنان. يتّخذن من الساحات منازل لهن، ولا تعبأ إحداهن بالشهرة السهلة التي قد يعتبرها البعض "وصلت إلى بابهن". إنهنّ الجميلات!

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم