الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

من القُعر الذي وصلت إليه "الفيحاء"

طلال خواجة
A+ A-

اتصلت بي صحافية صديقة من داخل قاعة في "الكواليتي إن" في طرابلس حيث احتشد في 15/ 12/ 2013 حوالى مئتي شخصية من قياديي 14 آذار و بضع عشرات من ناشطي المجتمع المدني من أجل دعم المدينة التي تشهد تدهوراً دراماتيكياً على كل المستويات. أبدت الصديقة استغرابها لعدم مشاركتي في هذا اللقاء الجامع، خصوصاً انها تعتبرني أحد العشاق الكثر للمدينة التي تعاني مع ذلك من وحدة قاتلة.


قوّمنا إيجاباً هذه الخطوة، لكن كان أملنا أن تشكل نقلة نوعية في أداء 14 آذار وتيار المستقبل خصوصا، ذلك أن التردد والانكفاء فضلاً عن مظاهر التحجر في الأداء طبعت مواقف التيار الأزرق، خصوصاً منذ إسقاط حكومة الرئيس الحريري بالقوة ودخول المدينة في مرحلة التراجع المتدحرج بعدما توسّم أهلها خيرا في أعقاب إتفاق الدوحة والمصالحة التي رعاها الحريري في منزل مفتي طرابلس المتنور.
إلا أن القعر الذي وصلت إليه الفيحاء في السنة الأخيرة (خصوصاً مع تداعيات إعلان "حزب الله" اشتراكه في الحرب في سوريا إلى جانب النظام الإستبدادي القاتل) بات من العمق بحيث أن جانباً كبيرا من مظاهر الأزمة أصبح يتمظهر بتفلت أمني وإجتماعي، كما بات يضع مؤسسات الدولة كلها أمام تحدٍ كبير، خصوصاً مع استمرار الحزب وحلفائه في الدفع نحو مواجهة مع المؤسسة العسكرية بشتى السبل، وهو ما لن يحصل على كل حال مهما اشتد ساعد الفتنة، ذلك أن تصاعد التطرف والتفلت والفوضى وصولاً للإستباحة لم يحجب الرغبة الطرابلسية الإجمالية بالتمسك بالدولة ومؤسساتها.
لا ندّعي أن المجتمع المدني الطرابلسي المتنوع استطاع إيقاف موجات التقاتل وتحريك الخدمات البطيئة سياسياً وإدارياً وبلدياً (التقصير كان مفجعاً وقت الإنفجارين)، كما لم يستطع رغم احتضانه حركة التجار والإقتصاديين وقف الشلل وتحريك عجلة الإنماء ووقف التنفيذ الكارثي للأعمال العامة، سواء في الإرث الثقافي أو في البنية التحتية.
ورغم تفكك هذا المجتمع، بإعتباره إنعكاساً للمدينة ونخبها، فقد استطاع إبراز وجهها الآخر كمدينة منفتحة ومتنوعة ومتعددة، وقامت منوعات هذا المجتمع بعشرات اللقاءات النوعية والمسيرات والاعتصامات، كما أنجز البعض أعمالا إنمائية ساهمت في إبراز الإندفاع التحديثي في الشمال والذي وصل حد الهوس. إلا أن تواتر الأحداث وتحجر الطبقة السياسية الطرابلسية ساهما في تعتيم هذه الإندفاعة وربما اطفائها.
ومع أننا ممن يقدرون خطوة دعوة ناشطين من المجتمع المدني إلى لقاء 14 آذار في الكواليتي إن، إلا أنه يجب الإنتباه إلى أن أهمية المجتمع المدني هي بمحافظته على جانب كبير من الإستقلالية كما الحيادية السياسية النسبية في طروحاته رغم هوى المدينة الـ14 آذاري، علما أن تراجع 14 آذار والمستقبل تحديدا ينعكس مباشرة في نمو ظاهرة التطرف والتي تصب في إذكاء الصراع الشيعي - السني، خصوصاً مع تضخم الظاهرة في سوريا في موازاة تراجع القوى الثورية الليبرالية.
لذا فإن مهمة الحفاظ على إستقلالية المجتمع المدني هي أولوية بالنسبة لكثيرين، ومنهم أصحاب السوابق اليسارية الذين تسللوا إلى المواقع الرئيسية في هذا المجتمع بعد أن عجزوا عن إيجاد كتلة خاصة بهم تستطيع التأثير المستقل بالحركة السيادية الإجمالية.
ومن المفارقات أن أصحاب السوابق اليسارية والمؤيدين بشدة لثورة الأرز والثورات العربية المدماة هم الأكثر رغبة بالحفاظ على إستقلالية المجتمع المدني، والأكثر قدرة على توسيع المساحات المشتركة سواء على مستوى الشعارات الكبيرة في مواجهة العنف والفوضى و السلاح، أو على مستوى الإنماء والإقتصاد والإجتماع والبيئة، حيث كانوا سباقين في رعاية ودفع ومتابعة القضايا الأكاديمية والإنمائية والبيئية، وفي مقدمها موضوع البناء الجامعي في المون ميشال بإعتباره صرحا أكاديمياً وحضارياً وثقافياً يعيد ثقة الناس من كل الأطياف بمؤسسة وطنية عريقة. فهل يُستغرب بعد ذلك أن لا يدعى أمثالنا إلى هذا المحفل، علما أن الملامة تقع على تحجر المستقبل كما على ضعف وتشتت بقايا اليسار السيادي الديموقراطي وتكلس بعض النخب.
ولكن دعونا لا نبالغ بأشخاصنا التي لم تكن لتزيد من وزن هذا اللقاء المهم، ذلك أن أزمة التواصل مع قيادة المستقبل لا تقتصر على بعض النخب اليسارية وغيرها بل تطاول المجتمع الطرابلسي العريض، خصوصاً في المناطق الشعبية والتي لطالما شكلت خزان 14 آذار وعامل التوازن مع كتل "حزب الله" الشعبية. هنا يتبدى مظهر كبير من مظاهر الأزمة التي نأمل أن يشكل ظهور قياديين جدد على المسرح السياسي عامل كسر لحواجزها الكبيرة التي أنتصبت على مر السنوات، علماً أنها مهمة معقدة، صعبة وملتبسة وتتعلق بعوامل لبنانية وإقليمية ودولية كما تتطلب المرونة والحزم في إدارة العلاقات، خصوصاً نتيجة بروز مصالح فردية واختراقات الأجهزة وإزدياد السلبطة والخوات ومظاهر التفكك والتفلت مع تصاعد الفقر والبؤس وتدفق اللاجئين إلى المدينة التي تختنق مناطقها الشعبية أصلاً.
لم أكن محظوظاً بسماع مداخلات المؤتمرين، سواء السياسية منها أو مداخلات الناشطين الذين أسمعوا قيادة 14 آذار مظالم المدينة، علما أن بعضهم يحفظها عن ظهر قلب وربما شكّل جزءا منها سواء برعاية بعض مظاهرها في الإدارة والبلديات وتنفيذ المشاريع، أو بإنكفائه وتمترسه وراء الشعارات السياسية تاركا الساحة لمزيد من الإستباحة. ولكن ما قرأناه في البيان الختامي يوحي ببعض الأمل، خصوصا انه يجري متابعة بعض المقررات التي سقط في سبيلها الشهيد الطرابلسي المتميز محمد شطح في عملية إرهابية متعددة الهدف.
لقد قارب البيان المحاور الرئيسية للأزمة الطرابلسية، خصوصاً في موضوع الدولة وسيادة مؤسساتها الحازمة وغير المفرطة، نظرا الى خطورة وحساسية مسألة الجيش الذي لا أمل من دونه على كل حال. كما استعاد البيان قضية المصالحة مظهرا وحدة النسيج الطرابلسي بعد فصل المفجِّرين والقتلة أمام المسجدين عن غيرهم من المواطنين العلويين، ورفض حصارهم والتعدي عليهم وعلى ممتلكاتهم، وهي اعمال مشبوهة وغريبة عن طبيعة الطرابلسيين الذين "بالغوا" في احتفالات الميلاد وإضاءة الأشجار في بادرة دفاعية عن تمسكهم بالتنوع وبالعيش الواحد، نأمل أن نبتدع ترجمة لها في مسألة التوتر السني - العلوي.
كما أن دعوة البيان للإستقرار والإنماء اتت مترافقة مع الحرص على العدالة، خصوصاً في التشديد على ملاحقة قضية التفجيرات حتى النهاية. وفي تقويم سريع نقول إن المؤتمر شكّل خطوة جيدة في الإتجاه الصحيح وربما استشعر الجميع حجم الأخطار في العاصمة الشمالية التي بدأ هواؤها يميل إلى صقيع البادية الشامية، ما ينذر بانفلاش الفوضى والتطرف.
لم نكن ننتظر أن يشكل اللقاء إختراقاً كبيراً في مسار الأزمة اللبنانية ومضاعفاتها الطرابلسية، ذلك أن قواه تعاني من أعطاب جوهرية وصفنا بعضها، وبالإجمال فإنها قاصرة عن تكوين رؤية سياسية شاملة ووضع الخطة المناسبة لمجابهة الخطر على الكيان، رغم صمودها وتصديها الإجمالي وباللحم الحي لقوى البطش والممانعة.
أما تداعياته على المكونات الطرابلسية فربما علينا أن ننتظر قليلا، خصوصاً أنه شكل دينامية معينة، ربما على تيار المستقبل بمرجعياته المختلفة أن يقرر كيفية الإستفادة منها عله يعيد وصل نفسه بالناس في المناطق الشعبية، وأيضاً على مستوى النخب، كما على المجتمع الدني أن يستمر في توسيع المساحة المشتركة بين مختلف الأطياف، وعلى أصحاب السوابق اليسارية متابعة قضية تشكيل الكتلة المستقلة وابتكار أفكار وأساليب جديدة من أجل ذلك.


استاذ في الجامعة اللبنانية

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم