الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

سقوط الجمهورية الثانية

غسان العيّاش
سقوط الجمهورية الثانية
سقوط الجمهورية الثانية
A+ A-

حتى السابع عشر من تشرين الأوّل، كنا نعتقد أننا نعيش بين مواطنين يسهل استغباؤهم، ولا يعصى استغلالهم على تجّار السياسة. مواطنين يتحرّكون بالغريزة القبلية وبالمصالح الضيّقة والأنانية.

ما أجمل أن تتغيّر صورة مواطنيك من حولك، فيظهر الشعب اللبناني أمامك شعبا واعيا مستنيرا، يعرف بديهيات الاقتصاد وأصول الحكم والسياسة، ويتحدّث بصوت واحد ومنطق واحد، من أقصى لبنان إلى أقصاه.

توحّدت أصوات "الثوار" في كل لبنان على مطلب واحد، مطلب الحدّ الأدنى، وهو تغيير الحكومة. كان يُفترض بالقيّمين على السلطة تلقّف مطلب الساحات واتّخاذ القرارات السريعة بتشكيل حكومة توحي الثقة، والشروع باتخاذ تدابير جذرية لإصلاح النظام وإحياء الاقتصاد.

إلا أن النظام السياسي، جرياً على عادته، أغرق مطلب المعترضين في بحر المناورات السياسية. أصبح الموضوع مَن يشكّل الحكومة، مَن يخرج منها ومَن يدخل إليها. كأن أركان النظام لم يستوعبوا مدى غضبة الشعب واختناق اللبنانيين بفعل الأزمة الاقتصادية التي لا مثيل لها في تاريخ البلاد، منذ المجاعة الكبرى في بداية القرن الماضي.

إلى متى التسويف والمماطلة؟ حتى لو جرى كسر الحركة الشعبية وإجبارها على الانسحاب من الشوارع دون تلبية مطالبها، هل يمكن حكم لبنان بالطريقة والأدوات نفسها التي كانت قائمة قبل السابع عشر من تشرين؟

لقد سقط النظام وانتهى أمره، وقواعد الحكم التي كان معمولا بها قبل الحراك لم تعد صالحة بعد الحراك. بات اللبنانيون يعرفون أن نظام الجمهورية الثانية، الذي ساد منذ سنة 1990، هو المسؤول عن الكارثة الاقتصادية والاجتماعية التي حلّت بلبنان. باتوا يدركون ويصرّحون بأن الجمهورية الأولى، التي انتهت إلى أسوأ الحروب الأهلية في تاريخ الكيان اللبناني، هي أفضل بما لا يقاس من الجمهورية الثانية، التي أوصلت البلاد إلى مشارف المجاعة والإفلاس.

في الجمهورية الثانية انهارت القيم، أصبحت السياسة تجارة تبتغي بالدرجة الأولى تحقيق الأرباح. ولم يعد هذا الأمر عيبا أو مدعاة للخجل، بل يكاد يجاهر به الممسكون بالسلطة دون الحدّ الأدنى من الحياء. كل اتفاق سياسي يتضمّن بندا ماليا يحدّد المنافع والأرباح. وكل وزارة أو إدارة هي مشاع للفريق الذي خرجت بنصيبه، يسلب خيراتها لمصلحته أو لمصلحة فريقه دون اهتمام بمصالح اللبنانيين. وكل مشروع يلعب فيه المسؤول عنه دورَين، دور السلطة ودور المستفيد.

إنها جمهورية الغشّ والكذب، الكذب على الشعب. في كل موازنة يوهمون الشعب بأنهم أعفوه من الضرائب، فيلجأون بدلاً منها إلى زيادة العجز المالي للدولة حتى وصل الدَّين العام إلى أسوأ نسبة في العالم كله، قياساً بحجم الاقتصاد. يسمحون له باستعمال الكهرباء دون مقابل تقريبا، ليكتشف اللبنانيون أن الكهرباء هي أكبر مكوّنات الدين العام، الذي يُلقى على عاتق الأبناء والأحفاد.

أوهموا اللبنانيين أن السياسات المعتمدة أمّنت لهم الاستقرار النقدي وثبات الليرة اللبنانية، لتظهر الفاجعة المدوّية بعد حين. لقد جرى استعمال ادّخارات اللبنانيين بالعملات الأجنبية لتأمين هذا الاستقرار، تبخّر أكثر من نصف هذه الادّخارات "لاستئجار" الاستقرار الموقّت إلى حين.

فشل نظام الجمهورية الثانية في تأمين الخدمات الصحية للمواطنين، الذين اشتكوا كثيرا في ساحات الحراك من المآسي التي تواجههم على أبواب المستشفيات. فشل في إدارة الضمان الاجتماعي والحفاظ على تعويضات المستخدمين، وفي توفير الكهرباء، وحل مشكلة النفايات، ومنع انهيار التعليم الرسمي، والحفاظ على مستوى الجامعة اللبنانية.

في الجمهورية الثانية، أصبح القضاء أكثر من أي وقت خاضعاً لضغوط السياسيين وابتزازهم، وباتت الإدارة العامّة وحشاً طفيلياً، يزداد عبئها على الناس بالتوازي مع انخفاض خدماتها للمجتمع.

هذه الحالة أنتجت نصف ثورة. يكفي أن تكتمل الثورة لتحرق كل شيء، ولا يبقى مكان يركن فيه المسؤولون كراسيهم.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم