السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

مؤسسات المجتمع المدني أمام تحدّيات الانتفاضة التشرينية

جاد تابت (نقيب المهندسين)
مؤسسات المجتمع المدني أمام تحدّيات الانتفاضة التشرينية
مؤسسات المجتمع المدني أمام تحدّيات الانتفاضة التشرينية
A+ A-

لقد أتى التحرك الشعبي الواسع الذي عّم المناطق اللبنانية كافة والذي شارك فيه مئات الآلاف من الشبان والشابات ومن بينهم عدد كبير من المهندسين، ليعبّر عن فقدان الثقة بين الشعب اللبناني والطبقة السياسية بكل مكوناتها، وعن رفض الاستمرار في السياسات والخيارات التي أدت الى تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وتردي الأوضاع البيئية وتدهور الخدمات العامة. وقد ترافقت هذه السياسات مع انتشار الفساد السياسي والمالي وتغليب روحية الزبائنية والمحاصصات الطائفية، ما ادى الى اضاعة جميع الفرص التي اتيحت لإنجاز إصلاحات اجتماعية واقتصادية تنقذ البلاد من السقوط في الهاوية.

شكلت انتفاضة تشرين ثورة سياسية-اجتماعية-ثقافية انطلقت من ألم الفقراء ومن وضع اقتصادي اجتماعي ادخل البلاد في أزمة عميقة. لقد تجاوزت الإنتفاضة الحواجز الطائفية والمذهبية للدفاع عن كرامة المواطن وطموحه للعيش الكريم. كما شكلت دعوة لإعادة بناء الوطن على أسس جديدة تنطلق من تحقيق العدالة الاجتماعية وتأسيس دولة مدنية لا طائفية جامعة تؤمن المساواة بين المواطنين والمواطنات وترسم أفق تحول جذري نحو نظام اقتصادي-اجتماعي بديل، في وطن يلعب دوراً ريادياً في العالم العربي ويواجه الأطماع الصهيونية والغطرسة الاسرائيلية بوحدة ابنائه حول فكرة الحرية ورفض التقوقع ضمن سجون الولاءات الطائفية والمذهبية التي لا أفق لها سوى الحرب الأهلية الدائمة.

ان الأزمة الخانقة التي يعاني منها اللبنانيون قد طالت المجتمع الهندسي بشكل واسع مع تراجع حاد في مجالات العمل المحلية والعربية وتفشي البطالة بين المهندسين وتدني ظروفهم المعيشية وانعدام الأفق امام الشباب منهم بشكل خاص. وليس في وسع المذكرة "الإصلاحية" التي اقرتها الحكومة أخيرا تحت ضغط الانتفاضة ان توجد حلولاً فعلية لهذه الأزمة الخانقة، اذ انها تنطلق من النموذج الاقتصادي نفسه الذي أوصل البلد الى الكارثة.

ففي عصر التحول البيئي الشامل لم يعد بالإمكان معالجة المعضلات الاقتصادية والإنمائية من دون ادراج الكفاءة البيئية كمقياس أساسي لكل مشروع. واذا اردنا ان يستعيد لبنان دوره المميز في المنطقة فينبغي ان يترافق التحول من اقتصاد ريعي الى اقتصاد منتج مع تحول آخر في نمط الإنتاج يرتكز على الاستعمال المستدام للمواد وتطوير الطاقات المتجددة واستثمار الطاقات البشرية الثقافية والعلمية التي نمتلكها للاستفادة من الآفاق الواسعة التي تفتحها الثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي لاحتلال مواقع متقدمة في محيط عربي تزداد فيه وتيرة التنافس الاقتصادي

لكن يبدو ان من صاغوا الورقة "الإصلاحية" لم يدركوا أهمية هذا التحول اذ بقيت التدابير التي اقرتها الحكومة تنطلق من نموذج اقتصادي قديم قائم على اعتماد وصفات نيو ليبيرالية تقليدية كخصخصة القطاعات العامة المربحة التي من الأرجح ان تقتصر على توزيع المغانم بين اركان السلطة، او اعادة احياء مشاريع تطوير عقاري كان قد تم التخلي عنها بسبب انعدام جدواها الاقتصادية والاجتماعية كمشروعي "لينور" و"اليسار"، او الاستمرار في تنفيذ مشاريع السدود من دون اجراء محاسبة تقييمية لفائدتها مقارنة مع كلفتها وأثرها البيئي، والإصرار على إطلاق محارق النفايات بدلاً من التركيز أولاً على تطوير عملية الفرز وتوعية المواطنين على ضرورة اعتماد الفرز من المصدر. ويبقى هذا النموذج ايضاً اسير مفهوم الارتكاز على السيارات الخاصة لتأمين تنقل المواطنين وذلك عبر إطلاق مشاريع كبرى لتوسيع شبكات الطرق وفتح مسارات سريعة جديدة للسيارات الخاصة بدلاً من تطوير النقل العام الذي يشكل الحل الوحيد لمشاكل التنقل بين المدن وفي داخلها.

ان ما تتضمنه المذكرة "الإصلاحية" لا يعدو كونه تجميعاً لسلة تدابير قديمة لا ترسم أي آفاق إنمائية مستقبلية ولا يمكنها في احسن الأحوال الا ان تؤجل انفجار الأزمة لبعض الوقت. لكن يبدو ان الطبقة الحاكمة عاجزة عن الانتقال من نموذج اقتصادي يؤمن لها جني أرباح طائلة على حساب الإنسان والبيئة الى نموذج اخر يرتكز على التنمية المستدامة حتى لو ادى هذا العجز الى الانهيار الشامل. كما يبدو ان هذا الانتقال قد يتطلب المرور عبر مرحلة انتقالية لإيجاد حلول سياسية تمكّن البلاد من مجابهة تحديات المرحلة المقبلة كتشكيل حكومة مدنية من نساء ورجال يتميزون بالكفاءة والنزاهة، مستقلة عن الطبقة السياسية الحاكمة، مهمتها معالجة الوضع الاقتصادي الاجتماعي لتفادي الانهيار وتأمين استقلالية القضاء والشروع في استعادة الأموال المنهوبة والتحضير لانتخابات نيابية وفق قانون جديد خارج القيد الطائفي.

لكن الولوج الى المرحلة الانتقالية هذه يتطلب اعتماد الحذر الشديد ورفض العنف بجميع اشكاله وحماية الانتفاضة الشعبية من التدخلات الخارجية التي من شأنها ان تحاصرها وتدخلها في مستنقعات الصراعات الإقليمية والدولية. كما ان المرحلة الانتقالية هذه تضع مؤسسات المجتمع المدني امام مسؤوليات تاريخية وتتطلب استعادة الدور التاريخي التي كانت تلعبه النقابات العمالية والمهنية في الخمسينات والستينيات من القرن الماضي، هذا الدور التي بدأت تفقده تدريجياً بعد انتهاء الحرب اللبنانية بسبب طغيان روحية الزبائنية الطائفية والحزبية على الحياة السياسية العامة وتدجين مؤسسات المجتمع المدني عبر إخضاعها لسيطرة القوى السياسية الحاكمة.

واذا كانت انتفاضة تشرين قد أنتجت أشكال تعبير عفوية أعطتها حيويتها وبرهنت عن قدرتها على ابتكار اطر تنظيمية جديدة تتميز بمرونتها وقدرتها على التوجه إلى جماهير مختلفة، فإن المرحلة المقبلة ستتطلب إعطاء دور اكبر لمؤسسات المجتمع المدني واستعادة استقلاليتها كي تتمكن من ان تتحمل المسؤوليات الكبرى التي تنتظرها في نقد ومراقبة اداء الاطر السياسية والضغط من اجل حماية مكتسبات تشرين.

ولنا في تجربتي الثورة التونسية والثورة السودانية مثال حي للدور الذي يمكن ان تلعبه مؤسسات المجتمع المدني، بما في ذلك النقابات العمالية والمهنية، لإيجاد أشكال عمل تؤمن استمرارية روح الثورة بعد هدوء العاصفة.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم