الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

كتاب - "أخبار حكماء الشرق" لإدريس شاه: الصوفية وقيامة الإنسان الرائع

جينا سلطان
A+ A-

يتعقب الصوفي الهندي إدريس شاه في كتابه "أخبار حكماء الشرق"، الحدس الباطني الذي كشف عن ماهيته في شرق العالم القديم، فتلقحت الأسرار القدسية بصبوة أهل العرفان، وأطوار اشتياقهم، بمقاماتها وحظواتها، مبيّناً كيف تغيرت مسارات القبس الصوفي مع اقتراب الزمن من استواء ميزانه، لتمنح علاقة المعلم المريد شكلا مختلفا يلائم تحديات العصر الراهن. يعتمد حل الإشكالات الحياتية عن طريق تداول الأفكار، وتدريب المبتدئين على تفسير رموز الإشارات وأبعاد الكلمات ومجاهلها، إضافة إلى تدريب مجموعات خاصة من اجل دراسة الحياة الداخلية، واستخدام الأدب في الميادين المختلفة للتفكير، لتقليص تبديد الطاقات، وبلورة مفهوم البعد الداخلي لخدمة الظاهر، مما يفضي إلى تنوع المواقف والتوقعات.


يفترض شاه أن المبدأ الأول في مقاربة المنهج الصوفي هو جدية التعامل مع تجارب الحياة اليومية لأنها مفتاح المعرفة. فتجاوز الأمور العادية والمبتذلة وتأمل التجارب الغنية بخيارات النضج والتفتح الخلاق، يقدم مفتاحا لفهم ماهية الحياة وأبعادها الحقيقية. هذه هي الخطوة الأولى للعودة إلى "ينبوع الوجود" وفق "تلميذ حيدر". وهي فكرة تتوضح في كلمات اسرائيل بخارى حين وصف العلم بالهواء، الذي يعيش الإنسان وسطه من دون أن يلاحظه، على رغم يقينه باستحالة الحياة في غيابه. المفارقة المدهشة أن الإنسان لا يراه الا حين يكون ملوثا، او يرتفع فيه الدخان، أي لا تتحقق الرؤية إلا من خلال رصد حركته. فالإنسان يرى الهواء الفاسد ويتنفسه متصورا انه جوهر خالص، وماهية صافية. في المقابل يستطيع ملاحظة الهواء، والافادة منه أكثر إذا فهم أنه "جوهر مشاع"، لا يلاحظ وجوده أحد! وهي حكمة تتعتق في مفهوم حجر الفلاسفة الذي تعلمنا منذ الصغر أن روعته تكمن في تحويل النحاس الى ذهب. لكن الأمر الأكثر روعة ان الحجر الفلسفي يحوّل "الإنسان" الى نحاس، لعدم فهمه وإدراكه. لذلك يؤكد شاه أن الجنس البشري ينطفئ من دون العمل الصوفي.
يعرّف الصوفية بأنها المظهر الخارجي للمعرفة الداخلية، اي المعرفة الفائقة أو العليا، فهي اتجاه يؤدي إلى الفضاء الداخلي. ولأن العنصر الداخلي لا يتغير، يحذرنا من تقليد الآخرين، فالتصور لا يعني الفهم. وحده مَن اصابته نعمة الادراك يستطيع ان يقدر المكان المتواضع الذي حلت فيه البركة. ويضيف اسكندر بلخ اتساعا للفكرة حين يعتبر الطريق الصوفي دربنا للاتصال والتمايز عن "الهمج" الذين يتناسلون من حولنا، فيغدو الاكتمال في العرفانية مماثلا لانعكاس "دليل الزمان" في الأعماق البعيدة، أي انتفاء الحاجة إلى معلم روحاني متجسد. جان فيشان يضفي بعدا آخر يتعلق بمنهج الدرس الصوفي، الذي يستثني المبكرين الواصلين لمراحل تتجاوز أسفار الكتب السابقة. إعادة طرحها عليهم سوف يعوق تقدمهم، سواء في معانيها، او بما تمثله من قيمة ودليل عمل. بينما يرتبط تمييز المعلم الحقيقي وقداسته عند المريدين بدرجة التيقظ الداخلي. يذكّر ابو النجوم بواجبات المعلم الحقيقي: "ان ما نبيعه هو ما اوكلنا به صاحبه، وانه ليس لنا الحق في بيعه مقابل دراهم الألم الجسدي التي لا أحد ينكر انه يستطيع ان يشتري بها بعض الأشياء، او بعض الملذات الحسية التي قد تختلط مع خدمة الله"! هنا يحذر من المغالاة في التضحية بالنفس، المقترنة عند المعلمين الزائفين بشبهات الخطيئة الأولى: الغرور. فالغاية هي تعليم الإنسان كيفية إيجاد التوازن، من دون إدانة عدم توازنه، لأنه يزداد في كل يوم عنفا وكراهية، ويهدم ما هو جوهري في حياته. ومثلما يغري السلوك الجليل العطاش الذين يبحثون عن الروحانية، ويلهم الاوفياء والصادقين، كذلك يلتبس مظهر اساتذة الصوفية بهيئة تجار في عيون السطحيين وعابري المعرفة!
تحمل الصوفية في طياتها غواية الحقيقة وتقلبات الأفكار بين حدي المعاني المزدوجة، فتبرز أهمية الكتب والحوارات التي تعلمنا المظهر الخارجي لدواخلنا. لأن كلام الداخل لا يبلغنا إلا من طريق الأشياء الخارجية، أما القوانين فلا تعمل سوى مع الذين يدركونها بسرعة فائقة.في هذا المدى سألوا زين العابدين عن السعي والازدهار فأجاب: يعتصم الغني بغناه جاعلا منه وثنا يعبده. والفقير يلجأ الى فقره، ويحسبه معشوقا. وحدهم الحكماء يعرفون القيمة ومعنى الأشياء، والجهود المبذولة من أجلها، وظروف أسباب الثراء والرفاهية.
يتقصى الغزالي تقنيات البحث الصوفي التي تميزه عن شعائرية الديانات المرتكزة بشكل أساسي على مبدأ تنظيم حياة البشر بطريقة عادلة وسليمة، ومن ثم قيادة المؤمنين من الثبات الخارجي إلى طريقة للوجود، ودفعهم إلى السلوك الذي يوقظهم، ويوصلهم الى طريق الخلود. بينما تعني الصوفية الوصول الى الوجود المستمر بشكل دائم، لأن المعرفة تتدفق باستمرار عند الانسان، ولكن ادراكها، ومن ثم استخدامها، هما المهمة التي يتعين على الصوفي مواجهتها.
اننا نستخدم كلمة "الحكمة" احيانا للتعبير عن "القدرة" على فهم المعرفة الخاصة، فالصوفية ترتكز على الفاعلية لا على القناعة. فاذا وجد الانسان نفسه نجح في تعميق وجوده الى اللانهاية. وان لم يستطع ذلك فسوف يكون عرضة للتلاشي. لا يوجد تهديد او وعيد في هذا البحث، لأن الانسان يعطي هذا الاعلان المعنى الذي يوافقه. ضمن هذا الاعتبار يرى الغزالي أن اكتساب المعرفة يساوي ما نسمّيه "الخوف من الله" في الديانة المعروفة. والبحث عن المعرفة يعني لدى الانسان العادي "عبادة الله". أما الدراسة فهي "تسبيح الله"، واجهاد انفسنا باكتساب المعرفة يعني "اعلان الحرب المقدسة"، وتعليمها يعادل الاحسان!
إذا كانت الصوفية اداة عمل لا غاية في ذاتها، ومعرفة الاسرار من طريق الحدس تتحقق بانسجام الفكر مع العاطفة، عندئذ تكون الترجمة الأدبية للصوفية هي محاولة بناء الإنسان الكامل، كأبله دوستويفسكي الرائع. وهذا معنى أن "نكون في العالم ولا نكون من اهله".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم