الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

انطباعات نزهة فكرية على تخوم انتفاضة 17 تشرين اللبنانية

غسان صليبي
انطباعات نزهة فكرية على تخوم انتفاضة 17 تشرين اللبنانية
انطباعات نزهة فكرية على تخوم انتفاضة 17 تشرين اللبنانية
A+ A-

لم اجد افضل من كلمة "نزهة" للتعبير عن جولتي الفكرية الخاطفة على تخوم الانتفاضة اللبنانية التي انطلقت في 17 تشرين الاول. فهل في إمكانك ان تفكر، ولو من خلال التحليل الجاف احيانا، بحدث وطني واعد، أشبه بالاحتفالية المتنقلة في ارجاء الوطن، بدون ان تشعر بالارتياح والفرح، وتعبّر عن ذلك بالكلمة المناسبة؟

من حقك ان تفكر في الحدث وتحلله، لكن ما تتوصل اليه يبقى انطباعات اولية امام تحول كبير، بما يعنيه "التحول" من انتقال نوعي وجذري من حالة الى حالة شبه نقيضة. فالتحول ليس تغييرا او تطويرا يسمح لك بتتبع المسار السابق واستنتاج صراعاته المركزية واتجاهاته الغالبة والقوى الفاعلة فيه. التحول يلزمك الحذر، تجاه فهم ما يحصل، وما كان قبل ان يحصل، وما يمكن ان يكون الوضع عليه في المستقبل.

ستشمل الجولة الفكرية بعض التخوم التي اراها نافرة. التخوم هي "الحدود الفاصلة بين الاراضي"، وبما يعنيني، هي الحدود الفاصلة بين حالتين، سابقة وحالية.

فلنبدأ النزهة.

أوكسيجين الاشجار والواتساب

لم تكن الانتفاضة بحاجة الى دوافع، فالمعاناة الاجتماعية والصحية والبيئية والاقتصادية والمالية والوطنية شاملة وشديدة التأثير على المواطنين، وتطال معظم الشعب اللبناني. يضاف اليها ان الافق مسدود، بقيادة سلطة سياسية تأخذ البلد الى الانهيار المالي وتضعه بلا مبالاة، في خضم الصراع الاميركي - الايراني. في لحظة ما قبل الانتفاضة، كان الشعب والبلد "في مهب الريح" بالمعنى الفعلي، وعلى مستوى الوعي الشعبي.

قيل ان الضريبة على الواتساب قصمت ظهر البعير. هذا صحيح لكنه غير كاف لفهم "المزاج" اللبناني قبيل الانتفاضة، الذي انتقل من الاستسلام شبه الكامل الى الاستنفار شبه الكامل.

الضريبة على الواتساب، وقبلها احتراق الاحراج، قطعا الاوكسيجين عن الناس.

كأن هذه الضرببة طالت ما يؤمّنه الواتساب من فسحة متبقية للتنفس، من خلال التواصل الإفتراصي مع الآخرين، الذي يعوّض عن العزلة الفردية. كأن الضريبة لحقت الناس الى عزلتها، الى منفاها، وقطعت عنها ما تبقى لها من نفس، او من وسائل لإجترار النقمة. فخروج الناس الى الشوارع والساحات، باندفاعته، يشبه من يهرب سريعا من بيت يحترق ولم يعد قادرا على إطفاء الحريق فيه. الهرب رمزيا من الحريق، يضاف الى الحاجة الى إطفاء "حرقة" القلب التي شعر بها اللبنانيون على شجر بلادهم "الخضراء"، التي احترقت قبل ايام بفعل اهمال المسؤولين واستهتارهم.

الغضب بفرح

فرحة اللبنانيين وهم يهتفون غضبا ضد الحكام، تشبه فرحة من نجا من الحريق وراح يبكي ويرقص ويغني ويشتم من كاد ان يتسبب بموته.

انه فرح الانعتاق من العزلة والخنوع. فرح من انتصر على خنوعه اولا ومن تلاقى مع الآخرين بعد العزلة ثانيا.

الهارب من الحريق في بيته، لا يبدل ثيابه ولا عاداته قبل ان يهرب، بل يصطحبها معه كما هي، ويتشارك بها مع الآخرين في الشوارع والساحات.

"ثقافات الجماعات" كانت حاضرة في انتفاضتها، ولم يجر طمسها لصالح سلوكيات "ثورية" مقننة وواحدة، بل شكلت كما هي، رافعات استوحى منها الشباب أنشطة انتفاضتهم.

الرقص والغناء حول الرموز الدينية

لم تخرج الانتفاضة اللبنانية لا من الجوامع ولا من الكنائس. لكنها لم تخرج ضدها أيضا.

الشبان والشابات، جعلوا من الرموز الدينية عنصرا غير متناقض مع فرحتهم. في ساحة الشهداء ورياض الصلح احتفلوا ورقصوا وشتموا امام جامع الأمين. في الزوق، احتفلوا ورقصوا وشتموا، فيما كان بعضهم يرفع صورة العذراء مريم. في طرابلس، شكلوا حلقة بشرية غنت واحتفلت وشتمت في ساحة النور، حول مستديرة "الله".

باسيل أكثر المكروهين

طال الغضب، وشملت الشتائم، الطبقة السياسية بمجملها، رئيسا وحكومة ومجلسا نيابيا.

الغضب كبير والشتائم جارحة ومتكررة، وبمستوى المعاناة الشعبية الكبيرة من جهة، وتعويضا عن الصمت الشعبي السابق من جهة ثانية.

"كلن يعني كلن"، هتاف يتكرر في كل الساحات. لا فرق بين زعيم وآخر إلى اي جهة حزبية او مذهبية انتمى.

لكن الشتالم طالت اكثر ما طالت جبران باسيل، وزير الخارجية اللبناني.

ربما لان جبران باسيل جمع في شخصه، خصالا لم يجاره فيها احد: التعالي والإدعاء والتسلط والمذهبية والعنصرية والتبعية، بالإضافة الى النزعة البورجوازية.

ربما أيضا لانه يشكل العمود الفقري لما يجمع العهد بالحكومة، بدعم وغطاء واضح من "حزب الله". اي العمود الفقري لنموذج حكم تميز به لبنان في السنوات الاخيرة، وأدى الى الازمات المتلاحقة.

انتفاضة واحدة وتحركات لا مركزية

تعدد الساحات وانتشارها في المحافظات جميعها، اعطت بعدا لامركزيا للتحركات، وساهمت في جمع اكبر عدد من المعتصمين بلغ نصف الشعب اللبناني.

التحركات في صور والنبطية وبيروت والزوق وجبيل والبترون وطرابلس، حولت الانتفاضة الى ما يشبه المواجهة المباشرة مع زعماء المذاهب والمناطق من قبل افراد هذه المذاهب والمناطق.

لامركزية المواجهة، في اطار وحدة الانتفاضة، هي مناسبة لمناقشة اشكالية التغيير في لبنان، وتمدها ببعض الفرضيات الجديدة.

كان الاعتقاد السائد حتى الآن ان التغيير في النظام او في القوانين او في السياسات العامة، لا بد ان يتم من خلال ضغط مركزي يشارك فيه مواطنون من كل المذاهب والمناطق.

التجربة الحالية يمكن ان تضيف على هذه الفرضية، ان المواجهة المركزية يجب ان تترافق مع مواجهات لامركزية، اي مع قيادة صراع داخل كل طائفة او مذهب، بين القوى المعارضة وزعامات هذه الطائفة او المذهب.

فشعار "كلن يعني كلن"، على صحته، يوحد السلطة من جهة، ويخلط المسؤوليات من جهة ثانية، فضلا عن انه لا يسمح بتبلور معارضة حقيقية لاطائفية فعلية داخل كل طائفة، كما انه لا يهدد المرتكزات الشعبية للزعامة الطائفية.

يبدو انه بدأت تتبلور، من خلال التجربة اللبنانية، والإنتفاضة العراقية الحديثة من قبلها، استراتيجيا للتغيير في إطار الانظمة السياسية الطائفية، تعتمد في الآن نفسه على المواجهة المركزية واللامركزية للنظام.

الإنتفاضة منبر جماعي وفردي

بالإضافة الى كونها في طبيعتها تعبيرا جماعيا عن المطالب الشعبية، تحولت الانتفاضة الى منبر للتعبير عن الآراء الفردية.

"انا بدي قول لللبنانيي..."، يقول المعتصمون وهم يبادرون إلى الكلام امام وسائل الاعلام. كثيرون يريدون التعبير عن آرائهم، والـ"أنا" تفرض نفسها في كلامهم. انها ليست فقط انعكاساً لحاجة الناس إلى التعبير بعد محاولات كم الافواه فحسب، بل ايضا مؤشراً لاستقلالية الافراد عن القوى والجماعات و"القطيع" بشكل عام، مما يمكن ان يشكل ضماناً لعدم طغيان الانتفاضة أيضا كجماعة، على حرية الافراد وقراراتهم.

آراء المواطنين تعددت وشملت القضايا المعيشية والمهنية الخاصة والعامة، والقضايا الاقتصادية، والسياسية والوطنية.

اتوقف عند اربعة تصريحات لمتظاهرين، تعبّر عن المزاج الشعبي، قبيل الانتفاضة. وبعدها

التصريح الاول: "لأول مرة بحياتي، بحس بإنسانيتي. شو ما كانت النتيجة عالظلم والفساد".

التصريح الثاني: "كلنا اموات... نعيش موتا مؤجلا. الثورة الآن او نموت جوعا".

التصريح الثالث: "نحن أسعد شعب كئيب في العالم".

التصريح الرابع: "كنت اخجل بجواز سفري اللبناني، اليوم انا افتخر بلبنانيتي".

تصريحات اربعة تؤشر إلى تحولات على مستوى الاحساس بالكرامة الانسانية والحالة النفسية والانتماء الوطني.

المعيشي، السياسي والوطني

المطالب المعيشية والاقتصادية كانت سباقة على لسان الشعب في ساحة الانتفاضة. لكن سرعان ما بدأت تطغى المطالب السياسية، من مثل اسقاط الحكومة والعهد.

حتى عندما اقر مجلس الوزراء ورقة سمِّيت "إصلاحية"، مستجيبا في بعض منها مطالب المعتصمين، ومعدِّلا بعض الشيء في مقارباته السابقة، لم يعر المعتصمون هذه الورقة اي اهمية، مطالبين بإسقاط الحكومة، وتأليف حكومة حيادية من اصحاب الاختصاص، وإجراء انتخابات نيابية مبكرة.

انها اللاثقة المطلقة بالطاقم السياسي الحالي بعد تجارب متكررة مع قراراته ووعوده. بدت الورقة الاصلاحية للمعتصمين كـ"ورقة التين" التي يحاول المسؤولون ان يخفوا من خلالها مواقفهم وممارساتهم الحقيقية التي لم يعد احد يثق بها.

يمكن القول ان بين الناس والسلطة "قطيعة أخلاقية"، لم يعد ينفع معها الكلام السياسي. قطيعة أخلاقية سمحت للناس بالتعرض بالنقد والشتم، للزعامات الرسمية وغير الرسمية المعصومة عادة، من مثل الرئيس عون والسيد حسن نصرالله.

لعل وقوف السيد نصرالله في وجه المطالبين بإسقاط العهد والحكومة، جعله يبدو حارسا للنظام القائم، مما عرضه لغضب مضاعف من المعتصمين.

تترافق هذه القطيعة الاخلاقية مع "نفس وطني" عند المعتصمين، يتجاوز الانقسامات المذهبية والطائفية، ويترجم برفع العلم اللبناني وحده، وانشاد الأغاني الوطنية. ولا مبالغة في القول ان المرحلة تؤسس للبنان جديد.

على رغم مناداة بعض المواطنين بـ"إسقاط النظام"، لا يمكن التسرع والقول ان المعتصمين باتوا مقتنعين بدولة علمانية، ولو انه في إمكاننا ان نتلمس موقفا لاطائفيا صارخا، يفتح الطريق امام مساءلة النظام الطالفي.

شباب ونساء وطبقة وسطى

التركيبة العمرية للمعتصمين تشير بوضوح الى طغيان الحضور الشبابي، مما يفسر جزءا كبيرا من التحولات والملاحظات التي توقفنا عندها اعلاه.

لافتٌ ايضا الحضور النسائي الذي يوازي حضور الرجال، والمشاركة النسائية الكاملة في التصريح والتنظيم والرقص والغناء ومواجهة القمع والاعتداءات.

الحضور الشبابي، شبانا وشابات، يضفي على الانتفاضة بعدا مستقبليا واعدا، على المستويات الثقافية والاقتصادية والسياسية والوطنية. والحضور النسائي يضيف اليها بعدا على مستوى المساواة بين الجنسين في بلد تتحكم فيه المراجع الدينية بقوانين الاحوال الشخصية.

على رغم تعدد الانتماءات الطبقية للمنتفضين، تفيد المشاهدات بأن الاكثرية تنتمي إلى الطبقة الوسطى. لست ادري اذا كان يمكنني ان استند الى التجارب العالمية، لأتوقع إزدهار قيم الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية مع صعود الطبقة الوسطى.

ماذا بعد الغضب والفرح والامل؟

الغموض يلف ما سوف تؤول اليه الانتفاضة، وهذه حال جميع الانتفاضات.

لم يحقق الشعب مطالبه بعد، لكنه استرجع ثقته بنفسه والامل بقدرته على التأثير في اوضاع بلده وبسياسات حكومته، من خلال وحدته والضغط السلمي المتواصل في الشوارع والساحات.

الهجوم المضاد للسلطة قد بدأ. أمرت السلطة الجيش بفتح الطرق، لكن المعتصمين تصدوا له، ومن المتوقع ان يتابع الجيش محاولاته. القوى الحزبية في السلطة تصدت بالقوة للمعتصمين في صور والنبطية وبنت جبيل ومزرعة يشوع. وقد جرى التضامن مع المعتصمين في هذه المناطق، من قبل المعتصمين في المناطق الاخرى.

قد تلجأ السلطة الى التلاعب بأسعار العملة ورفع سعر الدولار مقابل الليرة اللبنانية، وربما افتعال ازمة محروقات وخبز ودواء، وترك النفايات في الشوارع. وجميعها وسائل لتحميل المنتفضين مسؤولية تردي الاوضاع، وتحسيسهم بالذنب تجاه ما قاموا به، ودفعهم للانكفاء والعودة الى الإذعان لإرادة السلطة.

يجب عدم إغفال كون لبنان حاليا، على المستوى السياسي والامني، جزءا من نظام اقليمي، يشمل العراق وسوريا واليمن، بقيادة ايران، مما يجعل التغيير فيه يطال هذا النظام الاقليمي أيضا.

جميع الاحتمالات مفتوحة. لكن الأكيد ان الشعب اللبناني اسّس لمرحلة جديدة على مستوى الاستنهاض المعنوي والنهوض الوطني.

سقط الخوف وسقطت معه السلطة السياسية من النفوس. يبقى ان يترجم التغيير في الواقع وفي النصوص.

كانت السلطة تخيّر الشعب بين الانهيار او الافقار. اصبح الشعب يخيّر السلطة بين الرحيل او تحمل تداعيات الانتصار.

شباب بلادي يعرفون ان المطلوب اليوم المزيد من المثابرة والرؤية والتنظيم وابتكار وسائل للمواجهة، وربما المزيد من التضحيات. ويعرفون أيضا، ان قيادة الانتفاضة يجب ان تنبثق من بينهم، وان تكون مدنية.

لقد ولد الشعب اللبناني من جديد. او ربما هو يولد للمرة الاولى. فلنربِّ هذا المولود الجديد بحب، على الحرية والديموقراطية والعلمانية والعدالة الاجتماعية والنضال اللاعنفي والاستقلال الوطني.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم