الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

أسمّيكِ اليوم... حرّية

غسان الحلبي
أسمّيكِ اليوم... حرّية
أسمّيكِ اليوم... حرّية
A+ A-

أسمِّيكَ اليوم حرّيّة، لبنانَ العائد. تحلِّقُ الآن بجناحيْك أرزتيْن لا تكسرهما أزمان. وشعبُك الطيور المغرِّدة فوق كلّ غصن، من جنوبكَ إلى شمالك، من بيروتك إلى بقاعِك، شعبُك واحد مغرِّد بالحرّيَّة التي ما استطاعت كلُّ القيُود وكلُّ الخزعبلات وكلُّ ألسنة الحكَّام المتلعثمة بالسفسطة والأكاذيب أن تخمدَ جذوتها المشتعلة الآن اشتعالَ الحقيقة حين تُبهِتُ كلَّ غِطريس.

كنتُ أشتاقُكَ، وكنتُ أفتـقـدُ فيك ذاتَـك. وكنتُ أحياناً... أبكيك حين أشعر بخسارةٍ فاجعة بأنَّني لن أراكَ كما أراكَ الآن. وحقُّكَ عليّ. حقُّـكَ عليّ لأنَّني أراكَ الآن أكبر من عَشَمي فيك. أذهلتني يا وطَن. ما عهدتـكَ مستبطِناً هذا القدر الهائل من حرّيَّة الضَّمير، وطاقة الاحتمال الهائلة التي تغيِّرُ كلَّ شيءٍ حين انبثاقها من عِقال الكبْت والإذلال. يا لشجاعةِ شعبك! يا لهذا الكمِّ الهائل من الحقائق البسيطة والمُبكيَة المختَزَنة في القلُوب والصُّدور تـتـدفَّق من الأفواه في ضوْء النهار، وفي الظلال المُشعَّةِ لعَـلَمٍ واحد ظننتُه يتيماً وإذ به ساطعاً حرّاً ولائقاً بألوانِه وبتاريخه وبالأيادي الخضراء اليانعة التي تعزفُ به نشيدَ الانعتاق.

والآن أنت هنا. لا فضاء يسعُك. ولا سياسة تحدّك. ولا مكان يليق بمكانتِك. أتعلمُ أنَّ معناكَ المحفُوظ في أفئدة النَّاس الطيِّبة هو أكبرُ من كلِّ المعتقلات التي تُدرِجُ الجماعات خلف أسوارها مكرِّسةً أوهام التصنيفات الطائفيَّة والسياسيَّة والعشائريَّة والطبقيَّة وما إلى ذلك من متاهات لزوم التّحكُّمِ والضَّبطِ والرَّبطِ والعبوديَّة؟ وأنَّ انطلاقَك الحرّ العاصِف البديع في الانفعالاتِ البديهيَّة لكلِّ إنسانٍ ذي كرامة ووجدان وحبّ واجِد لمعنى الحقّ الطبيعيّ بالحياةِ السَّويَّةِ العادِلةِ المتحرِّرةِ من كلِّ أشكال الطغيان والسَّلبطة والتلاعُب الخبيث، هو أجمل صورةٍ للحرِّيَّةِ الإنسانيَّة التي يذبحهَا الطغاةُ كلّ يومٍ يُمسكون فيه زمام الأمُور؟

ومع ذلك، أرى هذا الحقل المُشتعِل بورودِ الرَّبيع مُحاطاً بالذِّئابِ الكاسِرة. لديهم الوقت. لديهم ترسانة النّظام. لديهم أدوات التَّحكُّم بدهاليز الآليَّات الديموقراطية التي تتحوَّلُ في ظلماتها الحقوق الدستوريَّة إلى وسائل استخدام السلطة حفاظاً على السَّيطرَة. وليس لديهم بالطَّبع صحوة القلب الصادق وصدُورهُم مغمورة بعبادة المال والثروة وشهوة السلطة. ليس لديهم الوضوح ولا الذهاب مباشرة إلى ما هو الحقّ. ليس لديهم ما يفتدون به رقابهم إلَّا الثمن البخس ممَّا اختلسُوه. بينهم وبين ساحات الحرّيَّة الكراسي الباذخة التي يتعبَّدُون بها أصنامهم ومصالحهم التي هي غاية احترافهم السياسيّ ولبّ فحواه.

مع كلِّ هذا، لا يهمّ. لقـد تبدَّت الواحة الجميلة لكلِّ من له عينان لترى، وبصيرة لتُبصِر. من يفترش الأرصفة والطرقات اعتراضاً وغضباً هم مواطنُون ملتزمون بكرامة العيش، وكنَّا لا نرى من يفعل ذلك على مدى عُمر سوى الأحزاب. المواطن اكتسحَ "المجال العام" (بمفهوم هابرماس) اكتساحاً باهراً. أعاد لهُ معناه بالسياق الاجتماعي المدني الديموقراطي السليم. الأمر البالغ الأهميَّة هو أن لا يكون ذلك عابراً أو آنيّاً أو قابلًا للمحاصَرة والخنق. المهمّ أن يكون ثمَّة نواة (غير ظاهرة حتى الآن) مُفكِّرة مُخلِصة بالطَّبع يكونُ بإمكانها إقحام التداعيات في الفسحة الاستراتيجيَّة للباحة الداخليَّة. (لا أقول "الدولة العميقة" لأنَّني لا أرى هناك سوى الكانتونات المُحصَّنة للطوائف وفق تمايزها الطبقي في النظام القديم).

نعم، هذه هي. شكراً لروَّاد ساحات الحرّيَّة، فإنَّهُم بين ليلةٍ وضحاها كشفوا مكامن الضعف الكبرى في نظام متداعٍ. قلبوا الأدوار في المشهد. كم يكبر قلبُ المرء حين يسمع أصواتهم من كلِّ لبنان. وكم ينقبض هذا القلب للحالة البائسة التي تراهُم بها حين يدخلُون فرداً فرداً (كالمُفلِسين) إلى قاعة الحُكم لإعادة الأمور إلى عهدها القديم.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم