الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

أخيرًا استفاق الشّعب العظيم من سباته الدّوغمائي الطّويل

المصدر: "النهار"
ساندرا عيد – إعلامية وباحثة أكاديمية
أخيرًا استفاق الشّعب العظيم من سباته الدّوغمائي الطّويل
أخيرًا استفاق الشّعب العظيم من سباته الدّوغمائي الطّويل
A+ A-

انتفض المواطن على جوعه وعلى افتقاره الى مقوّمات الحدّ الأدنى من العيش الكريم، هو جائع الى نظام اجتماعي اقتصادي يراعي أبعاد الشخص الانساني الذي يُفترض أن ترعاه دولته وترفعه الى مستوى أعلى من مقاربة غرائزية لفلسفة وجوده، دولتنا حتى اليوم فشلت في أن ترسم ضمن استراتيجياتها الاقتصادية بناء أحلام المواطن، وغيّبت ما يعزّز الإبداع الفردي، ولم تضمّن أجنداتها أيّ مشروع يؤمّن فرص العمل اللّازمة واللَائقة لشباب لبنان المثقّف والمستقّل الّذي يُعتبر النّبض الحقيقيّ للبنان الحداثة، ولروح التّغيير والثقافة السياسية الجديدة ، جيل الشباب المنتفض في الشّأرع عكس الشريحة المجتمعيّة المنزّهة عن الانزلاقات الحزبيّة ، وقد بدأ يستدرك قسم كبير من متحزّبيه أنها انزلاقات بسبب أفكار إيديولوجيّة لم تخدم حتى السّاعة القضية الوطنية التي يفترض أن تكون قضية انسانية بامتياز.

شبابنا المنتفض في الشّارع هو رصيد الوطن الحقيقيّ ومرجعيّة كلّ استثمار، هو جائع إلى التأمل بغد أفضل وبحقوق الحدّ الأدنى، لم يعد مكتفيًا بمعايير التّنمية خارج المقاربة الثقافية لبعد الشخص الانساني، لذلك نشهد اليوم على استفاقة حقيقية تعد بفرص إيجابية وحقيقيّة لبناء لبنان الحداثة، حرّكتها منظومة الفساد في البداية ، لكنّها انطلقت هذه المرّة من وعي عميق لم يعتد عليه الشّارع اللبناني فاجأ المسؤولين ، وقد برهن الشّعب اللبّناني أنّه لم يعد يقبل بفتات إضافية أو بأنصاف حلول كي يهدأ غضبه ، فهو يعاني من ظمأ أنطولوجي وجودي متعدد الأبعاد تيترجم بدايته بمطالبة تأمين مناخ اجتماعي اقتصادي وبيئي يليق به ، هو لم يعد راضيًا عن الطّبقة الحاكمة الحالية، وعنده مطامح ثقافية وطنية حقيقية يريد ان يترجمها من خلال كفاءاته العلمية الاكاديمية وشهاداته العالية ، في حين أن الطاقم السياسي الحالي ليس على نفس موجته الطّموحة . لقد سقط رهانه على الطبقة السياسية نفسها، اليوم مطالب انتفاضة الشّارع مختلفة وواضحة ، وأبعد من ورقة اقتصادية : وعود الاصلاح لم تعد تنفع، المطلوب بناء الوطن على توازن أمني اجتماعي أركانه ثقافة جديدة تغييريّة تهتم ّبأبعاد المواطن، تعكس روح المواطنة المدنيّة المبدعة. هي ثورة المثقّفين اللّبنانيين في البلد ، من نخب شبابية مبدعة ترافقها حرقة قلب أكاديميّين وأكاديميّات أمهات وآباء ، أطفال ومسنّين ...

هذه انتفاضة استشرافية للبنان الّذي نريده، لبنان الّذي يعكس روح فلسفته اللّبنانية الأصيلة ولها جذور وقيم تأسيسيّة ، هي جذور تكرّس الحقوق المدنيّة تناشد المقاربة السياسية القائمة على الأسس التّنموية النّبيلة والطّموحة، والتي تناشد الفعل السّياسي بمعناه الواسع لا الضّيّق، واليوم تشكّل هذه الانتفاضة فرصة ليعكس المجتمع اللبناني ليس فقط قدرته ان يكون شعبا مثقفا وواعيا ، بل هو قادر ان يبقى متماسكا ومستحقّ هذه المرّة وعن جدارة شعاره " الشّعب اللّبناني العظيم" ، لقد برهن عن أسلوب جديد في مقاربته للخطاب السّياسي، رفع صورة لبنان الحقيقية الى المجتمع الدّولي، كان واضحا في مطالبه ، فقد طالب بسياسة تحيّد الأداء الفاسد عن شؤون الدولة وعدم إقحام الدّين والايديولوجيات الحزبيّة التّحاصصية في الفعل السياسي، وقد مارس حسًّا نقديًّا عاليا ، ومارس سلوكًا مواطنيًا جديرا بالاحترام يمكن على ضوئه التأسيس لاستقلال ثان للبنان ولنهضته التي تعكس حقيقة الوحدة المسيحية – الاسلامية التي حلم بها الصّحافي اللّبناني الراحل النّائب جبران تويني وكان قد رفع شعارها عاليًا ... وقد ردّد المتظاهرون قسمه أمس بشكل واضح وقد بدت روح جبران التّغييريّة والشّبابيّة والثّورية ، واضحة في نبض هذه الانتفاضة المفخرة للبنان .

هذه الانتفاضة تطالب بسياسيين حقيقيين، ترفض الميوعة الدّستورية ، لا تقبل بمنطق التّحالفات المؤقّتة ذات الحسابات الانتخابية المطّاطة أو المتخاصمة على الحقائب الوزارية ، واعية من الانزلاق او التراخي لورقة المصالحات السياسية او الاصلاحات المترهّلة القائمة على العرف في تشكيلاتها. هذه الانتفاضة التي انطلقت في ال 17 من تشرين الاوّل ترغب في استعادة روحية الدستور اللبناني المنهوبة ، وتطالب بتنقيتها من التعديلات الديماغوجيّة التي شوّهتها الأعراف فألبسته صلاحيات تناقض البعد المدني الذي يصبو اليه.

إنّ الازمة السياسية في لبنان اليوم سببها عدم تطبيق عدد كبير من المسؤولين السياسيين لروحيّة الدستور اللّبناني مع وجود سوء النية في تفسيره، لذلك إنّ انتفاضة لبنان المعبّرة عن عزّة وكرامة شعبه العظيم ترفض هذ المرّة التّسوية الطائفية في مرافق القطاع العام والنقابات والاتحادات ، وقد حان الوقت لفضّ شخصنة النّصوص الدستورية، ولتأسيس هيئة وطنية لالغاء الطائفية السياسية من اجل العبور الى الدولة المدنية لأنّ المواطنة هي الاساس والجوهر وقاعدة لكل حكم سياسي تنموي . وهذه"العصفورية الدّستورية " الّتي انتقدها الرّاحل غسان تويني ، تحاول هذه الانتفاضة أن تضع حدًّا لها. إن ّ الفسيفساء اللبنانية في انتفاضتها أثبتت أنها عظيمة وأنها قادرة على التّماسك ومدركة هذه المرّة لمطالبها التي تعكس ارادة حقيقية وصادقة في بناء وطن على قواعد وسلوكيات سياسية تدير البلد بروح تنموية حقيقية وبحسّ وطنيّ عال.

هذه انتفاضة تريد ان تنسف استمرار مفهوم الدولة الهشّة والغامضة لوصايات خارجية تفتّت الدّاخل ، هناك رفض لمفهوم الدّولة على قاعدة الحلّ الطّائفي ، مع نيّة حقيقيّة هذه المرّة في إزالة الالتباس حول الغموض الهوية الوطنيّة ، لخلق ميثاق "عيش مشترك ّ جديد خارج منظومة الذّهنية الاقطاعية البراغماتية السّائدة في البلد منذ اكثر من أربعين سنة .

تحيك هذه الانتفاضة رداء جديد للديمقراطية خارج عقدة العددية، تمكّنت من كسر جدار الخوف من الآخر المختلف في الدين، باسم الجوع والخوف من المستقبل المجهول في حال استمرت السّياسات الماكيافيلية قائمة، وقد التقى الشريك المسلم مع المسيحي على قاعدة الاهداف التنموية السبعة عشر التي أقرّتها منظمة الأمم المتّحدة عام 2016 وهي اهداف نبيلة وطموحة وبامكانها ان تشكّل خطة وطنية واضحة للبنان أفضل ، وهي رؤية طموحة تنسجم مع تطلعات الجيل الجديد وتراعي حاجاتهم وانتظاراتهم. يشهد لبنان اليوم على ولادة شراكة حقيقية بين المسلمين والمسيحيين في لبنان تشكّل مفخرة مشرقية لمفهوم التلاقي والحوار ومعايير السلام ، المناشدة بالعدالة الاجتماعية وبالمؤسسات القوية على قاعدة الحوكمة الرّشيدة أي بناء مفهوم الدّولة التّنمويّة الرّاعية لحقوق الانسان، القائمة على منطق الكفاءة والجدارة وتفعيل المحاسبة والمساءلة وخلق آليات واضحة تتيح امكانية ممارسة الدور الديمقراطي وحرية التعبير المسؤولة والواعية ، تلغي التعاطي الاداري داخل المؤسسات العامة على قاعدة "شبكات محاسيب" حزبية – طائفيّة.

الدّولة اللبّنانية بكلّ سلطاتها فشلت في مأسسة استراتيجية ثقة على هذا المنطق الذي تناشد به وتطالب انتفاضة لبنان الجديد منذ السابع عشر من تشرين الاول 2019 . لقد فقد ّ المواطن ثقته بدولته التي لم تكترث لحاجاته التنموية الاساسية لا بل اعتمدت سياسة تقشّفية الى مزيد من التجويع والتّفقير والذّل... ، وقد سئم الشعب اللبناني من سياسة يريد كلّ من فيها أن يتدخّلوا في كل شيء في سبيل علاقات نفوذ ، لم يعد يحتمل هدر الأموال على مشاريع عديدة وعلى برامج ودراسات وأبحاث لا تسلك حيّز التنفيذ الجدّي، انما أيضا لا تحترم ثقافة شعبها ولا تلبي احتياجاتهم الاساسية اي الحق بصحة جيّدة، الحق ببيئة آمنة ونظيفة، إنتاج واستهلاك مسؤولان، مياه نظيفة، تأمين السلامة الغذائية، القضاء على الفقر والجوع ، تأمين العمل اللائق والنّمو الاقتصادي، وغيرها من الاهداف التي اختصرتها أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر ...وهي تشكّل قاعدة كلّ سياسة تنمويّة تعكس الحوكمة الرّشيدة ومعايير الدّولة القوية اي العادلة والتي تتّبع نهجًا يؤسّس لعقد اجتماعي ولنظام حماية اجتماعية اقتصادية تتبلور فيه مقومات الحد الادنى للعيش الكريم . التنمية المستدامة ترتبط بكامل منظومة المجتمع والاقتصاد. السّلامة المستدامة تطاول كلّ شيء بترابط وتشابك، وتشمل المياه، البنى التحتية ، الصّناعة والاقتصاد، لكن لم يلمس الشّعب اللّبناني أيّ مشروع جدّي وفق روحية ومنطق أهداف التنمية المستدامة ّ كما ان مشروع بناء المؤسسات لا يعتمد على سياسة وزير بل يجب ربطه بسياسة حكومات بعيدة المدى من خلال الادارة ، وإنّ عقد الشّراكة الحقيقيّة ضمن العمل المؤسّساتي يعني فك القيود داخل هيكلية الوزارات، الا ان العلاقة التشاركية الحقيقية غير موجودة ضمن آلية واضحة تكاملية لهذه الشراكة في رسم السياسات العامّة بين الوزارات وهيئات المجتمع المدنيّ وبين النواب وبين الاكاديميا والنّقابات والاتحادات التي تعكس الّرّؤية الوطنيّة الشّاملة للمجتمع اللبناني بمختلف قطاعاته العامة والخاصة.ّ

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم