السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

الفائز بنوبل الآداب بيتر هاندكه حين تحدّث لـ"النهار": يجب أن يدوسني الزمن أكثر لأستحق كتابة الشعر

المصدر: "النهار"
جمانة حداد
Bookmark
الفائز بنوبل الآداب بيتر هاندكه حين تحدّث لـ"النهار": يجب أن يدوسني الزمن أكثر لأستحق كتابة الشعر
الفائز بنوبل الآداب بيتر هاندكه حين تحدّث لـ"النهار": يجب أن يدوسني الزمن أكثر لأستحق كتابة الشعر
A+ A-
نال الكاتب النمسوي بيتر هاندكه جائزة نوبل الآداب للعام 2019، اليوم، إذ كوفئ على أعماله "التي غاصت في فرادة التجربة البشرية، مدعومة ببراعة لغوية".وفي هذه المناسبة، نستعيد من أرشيف "النهار" مقابلة أجرتها مع الكاتب الزميلة جمانة حداد، هذا نصّها الكامل.لا أعرف بأي معجزة رضخ الكاتب النمسوي بيتر هاندكه لإصراري على محاورته، فوافق على محاولتي الثالثة للقائه بعدما كان رفض محاولتي الأولى وتجاهل الثانية. وعندما اتصلت به على الرقم الذي دوّنه لي في رسالته، وأخبرته عن سفري الى باريس بعد أيام، قال بصوته الخافت المتلعثم وبنبرته المتقطّعة التلغرافية: “لنلتق إذا يوم الأربعاء في منزلي. خذي الـ RER C من السان ميشال. البيت على بُعد امتار من المحطة. تعالي عند الأولى بعد الظهر. سوف نتناول الغداء معا”. وهكذا صار.كان يوما باريسيا ماطرا، وعندما وصلتُ أخيرا الى الضاحية التي يقيم فيها هاندكه بعد مشوار طويل أمضيته واقفة في القطار خوفا من ان أفوّت المحطة، شعرتُ بأني انتقلتُ الى زمن آخر. مشيت في الشارع الهادىء على وحشة، ولم اكن في حاجة الى ان اقرأ الرقم على الجدار لكي اعرف أني بلغتُ مقصدي. فكل شيء في المكان كان يصرخ: هذا بيته! هذا بيته! من الممر المعتم الطويل الذي يعزل المنزل المختبىء عن الطريق الرئيسية، الى أوراق الشجر الصفراء المكوّمة بإهمال لذيذ على الأرض، مرورا بالصمت المهيب السائد في المكان، وصولا الى البوابة الخشب العتيقة والعالية التي كأنها تقول للناس: ابتعدوا! نقرتُ الجرس مرّة، ثم مرّة اخرى بعد دقائق، فانفتحت البوابة واستقبلني رجل طويل القامة، هزيلها، بابتسامة مرتبكة. ما أن عبرنا الساحة ودخلنا البيت الفسيح ولكن المتقشّف الذي يقيم فيه الكاتب بتقطّع منذ عام 1991، حتى قال لي: “آمل أنك تحبّين الفطر”. ولحسن الحظ أني أحبّه فعلا، إذ كان طعام الغداء، الذي حضّره بنفسه، قائما على أطباق متنوعة من الفطر المقلي والمشوي والمتبّل مع السلطة وغيرها من البدائل، وهو فطر يقوم بقطفه من الغابة المجاورة كل صباح. بيتر هاندكه كائن برّي، منعزل، صموت، غريب. اضطرابه وتوتّره وحيرته تكاد تكون مؤثرة. روحه تشيع مرارة طاعنة، وهو يتكلم همسا، بجمل قصيرة وذات إيقاع. “لن نتطرّق الى السياسة، أليس كذلك؟”، بادرني ونحن نأكل، فقلتُ له: “هل تحاول ان تتغداني قبل أن أتعشّاك؟”، مترجمةً مثلنا اللبناني الشهير. فهم المثل، وشرح لي ان ثمة حكمة مشابهة بعض الشيء في بلاده.ولد هاندكه في غريفن، في كنف عائلة متواضعة من المزارعين النمسويين. أمّه سلوفانية ووالده مجهول، فربّاه زوج أمه الذي كان سكّيرا. بدأ الكتابة في سن السادسة عشرة، وعندما وافقت دار “سوركامب” على نشر روايته الأولى عام 1965، في عنوان “الدبابير”، تخلى عن دراسته الحقوق وكرّس مذّاك كل وقته للكتابة. وقد “احترف” الكاتب المواقف المتطرفة والجدلية والصدامية، واشتهر منذ عام 1966 بسبب هجوماته على مبادىء “مجموعة 47” التي كانت تضم اسماء بارزة على غرار غونتر غراس وهاينريش بول، وكانت تهيمن على البانوراما الأدبية الألمانية في تلك المرحلة. يسجّـل بيتر هاندكه اليوم قطيعة شبه نهائية مع الحياة العلـنية، ولذلك كان رقما صعبا بين الحوارات التي أتوق الى تحقيقها. وهو منعزل وممتنع عن الكلام خصوصا، رغبة منه في وضع حدّ لسيل الانتقادات التي يتعرض لها باستمرار مع كل اطلالة وحوار وتصريح، وفي قطع الطريق امام جميع الذين يهاجمونه وليسوا قلة. وقد تكون أشرس حملة شُـنّت عليه تلك التي أثارها دعمه نظام ميلوسيفيتـش، خصوصا بعدما اصدر كتابه “العدالة لصربيا”. دعمٌ رسّخه هاندكه ايضا في كتابه “عالم إجرامي وقح”، حيث أغار بعنف على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والغرب برمته لمهاجمتها صربيا واجتياحها لها، قائلا إنها تخترع بذلك “أوشفيتز” جديدة. وهو أيضا دعمُ استحق عليه وساما من رتبة الفرسان الصرب اثناء زيارة قام بها الى بلغراد عام 1999. ولم يتردد يومذاك في الخروج من الكنيسة الكاثوليكية بسبب موقفها من الصراع.لهذه الأسباب وغيرها اطلق الفيلسوف السلوفيني سلافوي زيزك والروائي الصربي بورا كوسيتش لقب “الوحش” على هاندكه، في حين انتقده بيتر شنايدر على “تحيّزه المهين”، واتهمه الفيلسوف اندره غلوكسمان بـنفي التطهير العرقي الصربي. الا أن هاندكه لم يعر هذه الاتهامات اي اهمية، وهو الذي يظهر، منذ بدايات مسيرته اللامعة كروائي وشاعر وكاتب مسرحي، ميلا واضحا الى الإستفزاز والتحدي، وقد كتب: “أنا كما انا. فكّروا كما شئتم. وكلما ظننتم أنكم اصبحتم أكثر قدرة على الحديث عني، ازدادت حريتي إزاءكم”. ولكن مما لا شك فيه أن هذه المسألة انعكست سلبا عليه في الأوساط الأدبية، فبات كالمنبوذ الى حد ما، كما اثّر الأمر في رواج كتبه، وكثر هم الذين اقسموا، بعدما سمعوا تعليقاته على الحرب في يوغوسلافيا، بألا يقرأوا له كتابا واحدا بعد ذلك اليوم.أخبرني بيتر هاندكه عن رغبته في زيارة لبنان وسوريا ولكن في شكل غير رسمي، وان يركب الباصات كأي مواطن عادي ويتجول مع حقيبة على ظهره. “كيف النقليات العامة في بلادكم؟”. فضّلتُ ان امغمغ الجواب كي لا أحبط عزيمته. أخبرني ايضا أنه يتعلم العربية بمفرده منذ خمسة اعوام، ودلّني على كتاب يقرأه لإبن العربي. “اقرأ كل يوم جملتين أو ثلاثاً وأتأمل فيها طويلا”.هذا رجل قلق ويوحي الهشاشة. فيه الطفل المذعور بقدر ما فيه الثعلب الحذر. خسر هاندكه والدته ماريا عام 1971، اذ انتحرت هذه تاركة وراءها رسالة تقول فيها إنه بات من غير المعقول لها أن تستمر في العيش، وقد خلّف هذا الانتحار في روحه جرحا دائم النزف. سألني اي كتبه احبّ على قلبي، وعندما أجبته بأنه “الأسى اللامبالي”، الذي يروي فيه قصّة انتحار والدته، حزن وقال: “لا، هذا كتاب كئيب جدا. لا اريده ان يكون هو كتابكِ المفضل”. ثم تحدثنا عن عمله الأخير، “دون جوان”، الذي صدر للتو بالألمانية، وأخبرني كيف ولدت فكرته. كان هاندكه على ما يبدو يتنزه وحيدا في الغابة على عادته، عندما فاجأه مشهد ثنائي يمارس الحب بين الأشجار. آنذاك جمد في مكانه وشعر بأنه “ملزم” البقاء والمشاهدة، وهكذا كان. ظل واقفا كالمتلصص حتى اللحظة الأخيرة من دون أن ينتبه العاشقان الى وجوده، ومن هنا لمعت شرارة “دون جوان”.البعض يرى كتابة هاندكه عبقرية، وآخرون يعتبرونها هرمسية وملتصقة أكثر من اللازم بتجربته الحميمة. ولكن مما لا شك فيه أنها مربكة، مثله، ومثل واقعه اللازمني الذي لا يمكن القبض عليه. وأنها تزداد غريزية عملا وراء عمل.على مرّ مؤلفاته الكثيرة، وهي تنوّعت بين الرواية والشعر والنقد والمحاولة والريبورتاج والسيناريو، نال بيتر هاندكه عددا كبيرا من الجوائز الأدبية المهمة النمسوية والالمانية. من أعماله نذكر “فقدان الصورة” و“سنتي في خليج لا أحد” و“الساعة التي لم يكن الواحد منّا يعرف شيئا عن الآخر” و“الغياب” و“فن السؤال” و“الريح والبحر” و“أقيم في برج عاجي” و“قلق حارس المرمى لحظة البينالتي” و“العودة البطيئة” و“ثقل العالم” و“المرأة العسراء”. عندما اعطيته نسختين من “المرأة العسراء” بالعربية ليوقّعهما لي، طلب الاحتفاظ بواحدة، وكتب على الثانية إهداء الى مترجمته البارعة ماري طوق. “هل ستعرّفينني اليها عندما اجيء بيروت؟”. “طبعا”.“أضروري ان نجري الحوار؟”: هذا السؤال كان يتكرر كلازمة على لسان هاندكه طوال الغداء، فأخبرته كم انه من النادر في ايامنا أن تموّل مؤسسة اعلامية رحلة كهذه لغاية ثقافية، وانه لا يعقل ان اعود خالية الوفاض. حتى اثناء الحوار، لم ينفك يسألني: “هل انتهينا؟”. أمام تقاعس هذا الرجل الستّيني المتذمّر والمزاجي، والممازح بخفر، أحسستُ كأنّي أمّ تحثّ إبنها على إنهاء واجباته، أو كطبيبة أسنان تثير الذعر في نفسه. فقلتُ له ذلك.- كلما اقتربتْ يدي من جهاز التسجيل شعرتُ بأني جرّاحة تسنّن أدواتها أمام عينيك لفرط اضطرابكَ وتبدّل ملامحك. - اعذريني لكني لا أحب إجراء المقابلات. الأسئلة توتّرني.- كان عليّ إذا ان أجلب البنج معي.- لا، لا، إذ كنتُ ربما لأقول تحت تأثيره اشياء خطيرة.- سوف تقول اشياء خطيرة بلا بنج. كفانا دورانا حول الموضوع، ولنبدأ. هل انت مستعد؟- لا.- أعدكَ بأن العملية لن تكون مؤلمة.ضحك هاندكه، فاستغللتُ بارقة استرخائه وافلتُّ لمبضعي العنان.■ قرأنا لك في الشعر والرواية والمسرح والريبورتاج: الى اي عالم تشعر بأنك تنتمي أكثر من سواه، ولماذا؟- في هذه المرحلة من حياتي أنتمي إنتماء صاعقا ومطلقا الى الرواية لأنها الأكثر تلاؤما مع تـنفّسي وإيقاعي. إلا أنّي لم أتخلّ عن الشعر. الشعر هو لحظة ألم، وعندي من تلك الكثير، ولكن عليّ أن أنتظر. أن أنتظر المزيد من الجروح. أعني جروح الفرح ايضا. ثمة أمور تنقصني لكي أكتب الشعر. لكي استحق أن أكتب الشعر. أن يدوسني الزمن أكثر مثلا. يجب...
ادعم الصحافة المستقلة
اشترك في خدمة Premium من "النهار"
ب 6$ فقط
(هذا المقال مخصّص لمشتركي خدمة بريميوم)
إشترك الأن
هل أنت مشترك؟ تسجيل الدخول
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم