الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

المهرّج في محاولته اليائسة لرتق اليأس

عقل العويط
عقل العويط
المهرّج في محاولته اليائسة لرتق اليأس
المهرّج في محاولته اليائسة لرتق اليأس
A+ A-

يُنهي المهرّج يومه التهريجيّ الطويل، معترفًا لمراياه بالآتي:

إنّي أموت موتًا بطيئًا أيّتها المرايا. إذ من المفجع حقًّا أنْ أظلّ أشهد لكذبتي الجميلة المراوغة، بدل أنْ أشهد عليها، وأنْ أظلّ أتواطأ معها، كأنّها حقيقتي الساطعة. هل تعرفين أيّ وجعٍ أتوجّعه لأني لا أتعرّف على نفسي في شخص المهرِّج، ولأنّي لا أرى نفسي في المرايا؟ حتى لأجدني أقول أحيانًا في وصف هذا الضحّاك الجريج الذي هو أنا: يا له ضحّاكًا عبقريًّا. فلأمتدح قدرته الفائقة على الإضحاك والتهريج، ولأهجُ عجزي عن اجتراح ضحكةٍ واحدةٍ تدمل روحي. عساه يستطيع أنْ يتسرّب إلى نخاعي الشوكيّ ليحرّرني من نخاعي الشوكيّ، ويصيّرني إيّاه، فأضع بذلك حدًّا نهائيًّا لانفصامي!

لا ينتظر المهرّج جوابًا من المرايا، لكنّه يواصل اعترافه أمامها:

إنّي أموت موتًا بطيئًا، أيّتها المرايا. إنّي أبكي لا أضحك. إنّي أتلوّى لا أتراقص. أشاهد موتي أمامي، وأمعن فيه، بدل أنْ أجعله خادمي. لم يعد في مقدوري مواصلة هذه المهمّة الشائكة التي تقتضي منّي أنْ أُوهِم نفسي بالفرح وأنْ أعِد الناس به. إنّي قليل الإيمان، يا مرايايَ، بل عديمه، ولا أرى منه أيّ بصيص. لقد آن الأوان لأجد عملًا آخر. من مثل أنْ أقتل هذا المهرّج الذي فيَّ، أو من مثل أنْ أدخل في المرايا العاكسة لأُرِي الناس حقيقة الانفصام الهائل الذي يحدث على المسرح.

هذه هي المعادلة القاتلة التي تتملّكني، أيّتها المرايا: من جهة، ثمّة دمارٌ تراجيديٌّ في قعر الذات، وثمّة في الجهة المقابلة، أعراسٌ عند المشاهدين الهاربين من نفوسهم وأعمارهم، وثمّة أيضًا أعراسٌ في مقابر الضمير، وفي منتجعات القصور ووراء نتانات الكواليس.

ينبغي لي أيّتها المرايا، أنْ أُرِي الناس أيضًا كيف أعود مهزومًا إلى سريري النحاسيّ وإلى خراب الليل، وأنْ أُريهم ماذا يفعل أصحاب السلطان بأيّامهم، وكيف يستيقظون، وكيف يأكلون، وكيف يغتسلون، وكيف تفوح الروائح الكريهة من أرواحهم، وكيف يتخاطبون، وكيف يتراكمون كالدود، وكيف يراكمون الضحايا، وكيف يجمعون الثروات، وكيف يُفسدون العيش، ويجعلونه مستحيلًا.

إنّي أموت أيّتها المرايا، لأنّي - وأنا في ذروة التهريج – أشعر بالانفصام الهائل بين شخصي وشخص المهرّج. الأوّل يستحيل عليه أنْ يقنع ذاته بالتهريج على ذاته، في حين أنّ الثاني يمعن في أداء موهبة التهريج على شخص الشاعر.

إنّي أتَضَاحَك – لكنّي أموت - أيّتها المرايا، وإنّي أتراقص – لكنّي أتلظّى – كالمذبوحين بأظفار أيديهم، مجتهدًا في إضفاء حالٍ من الفكاهة الساخرة على حركاتي البهلوانيّة، لأُنقِذ – يا لسذاجتي - أيّام الناس من أقدار الوقوع في البراثن الثخينة. إنّي أموت موتًا حقيقيًّا أيتها المرايا، يا مرايايَ العزيزة، على غرار الموت الافتراضيّ الذي أموته، عندما أقفز في الفراغ العبثيّ لأكشح غيمةً كثيفةً واطئة، داعيًا إيّاها إلى البقاء على مسافةٍ قليلةٍ من النسيم الضئيل الباقي.

إنّي أنا المستلقي على خراب الليل، إنّي انتحر ببطءٍ، أيّتها المرايا.

***

هذا ما تتناهى أصداؤه من ارتطام روح المهرّج المأسويّ بشظاياها، لدى عودته في ساعةٍ متأخّرة من الليل، ليلتئم بما تبقّى من شظايا روحه.

ينام المهرّج قتيلًا في ثياب المهرّج، ليستيقظ، مخاطبًا ذاته، في فجر عطلته الهاربة، خاليًا من الانفصامات، ومتحرّرًا من الأوهام الموروثة والمستقبليّة.

يحضّر المهرّج قهوته الشخصيّة، على سجيّته، مستعينًا بجمر الفجيعة اللئيمة.

على مقربةٍ منه، كوبر، صديقه، يراقبه مطمئنًّا إلى أقدار المعادلات المرسومة، وإلى توازنات الشرط البشريّ الأحمق، ناظرًا برأفة إلى صديقه المهرِّج، مشفقًا عليه، قابلًا بحنكته الغريزيّة القسمةَ التي قُسِمتْ لهما، ومتناسيًا – يا لذكائه المفرط - أنّه أسيرُ هذه الحلقة الجهنّميّة المفرغة.

يتأمّل المهرّج حرارة القهوة الناعسة، ويضيع في غيمةٍ مفترضة من غيومها المبدّدة، في محاولةٍ يائسةٍ منه لرتق اليأس الفرديّ واليأس (اللبنانيّ) العميم، قبل أنْ يعود إلى مواصلة مهنته الأبديّة!

[email protected]


حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم