السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

أين يوجد عقلُ الإنسان، في قلبِه أم في دماغِه؟

رضا سعادة
أين يوجد عقلُ الإنسان، في قلبِه أم في دماغِه؟
أين يوجد عقلُ الإنسان، في قلبِه أم في دماغِه؟
A+ A-

تعود بي الذكرى لأكثر من ستين سنةً إلى الوراء، إلى ذلك الشيخ الجليل، غير المعمّم، المرحوم الشيخ محمود....، الذي كان يصطحبنا ونحن فتيانٌ صغار، لرعاية مواشيه ومواشينا في حقول القرية بعد موسم الحصاد، أنا وأترابي من تلامذة المدرسة الرسمية النظامية، في خلال عطلتنا الصيفيّة، فيحدّثنا ويسألنا ويجيب عن أسئلتنا، في موضوعاتٍ دينيّة وتاريخيّة واجتماعيّة. وكانت إجاباته عن المسائل الدينيّة، على قدر ذكائه وإلمامه بالمعارف التي اكتسبها من ذويه، أباً عن جدّ، ومن المدرسة القرآنية التي كانوا يديرونها في القرية؛ كذلك ممّا حصّله من تلاوته الدائمة للقرآن الكريم، ومتابعته لشرح وتفسير سُوَرِهِ وآياته البيِّنات.

كان الشيخ محمود يصرّ على أن عقل الإنسان موجودٌ في قلبه لا في دماغه، وكان يستشهد على ذلك بما تيسّر له من الآيات القرآنية.

فالسؤال الذي نطرحه اليوم هو: أين يوجد مركز العقل والتعقّل؟ أهو في القلب كما كان يزعم الشيخ محمود؟ أم في الدماغ كما تثبت ذلك العلوم الحديثة ويقرّه الحسّ السليم؟

لقد تعلّمنا في مناهجنا الحديثة، كما تثبت العلوم الطبيّة، وعلوم الفيزيولوجيا (وظائف الأعضاء) والتشريح، (Anatomie) أن الدماغ والأجهزة العصبية التابعة له، هو مركز الإدراك، والفهم، والتجريد، والتحليل، والتركيب والاستنتاج والاستنباط؛ يعني باختصار، أن الدماغ هو مركز العقل والتعقّل، بدليل وجود مراكز دماغية متعدّدة، (Centres Nerveux) أو مناطق (Zones)، كل مركز منها مسؤول عن نوع من أنواع السلوك والتصرفات، إذ يوجد مراكز للحركة الإرادية وغير الإرادية، ومراكز لاستقبال المعلومات الواردة من الحواس، ومراكز للإحساس بالجوع والعطش وتنظيم عمل الغدد، كذلك مراكز للمشاعر والعواطف والانفعالات، وللمقدرات المتنوعة، الرياضيـة (الحسابية) واللغوية، وغيرها من أعمال الإدراك والتحليل والتفكّر والتذكّر. وهذه المراكز تغطّي وتدير جميع أنواع السلوك والتصرّفات، والحالات الإنسانية المختلفة، النفسية والعقلية والفكرية والاجتماعية.

فإذا كان الإنسان يدرك المحسوسات التي في العالم الخارجي بوسائلها، أي بالحواس الخمس، فإن هـذه المحسوسات تنتقل إلى الدماغ، الـذي يستقبل صورها، ويحوّلها إلى معارف، فيخزّنهـا،

ويحلّلها، ويركّبها، ويستنتج منها ويستنبط ما يشاء، على المستوى الجزئي، الشخصي والفردي، كما على المستوى الكلي، العام والاجتماعي.

وإذا كان الدماغ، بالمراكز الدماغية المختلفة التي يضمها ويحتويها، وبالجهاز العصبي التابع له، هو الذي يسيّر حياة الإنسان كلها، لدرجة أنه إذا تعطّل مركز من مراكزه، بسبب مرضٍ أو صدمة، تعطّلت معه القوة الإدراكية التابعة له، كفقدانِ الذاكرة، أو نسيانِ الكلمات والتعابير المقروءة أو المكتوبة، أو مَحْوِ صور الأشياء. وإذا تعطَّل الدماغ كله، بِتَلَفِهِ أو موت خلاياه، تتعطّل جميع وظائفه، ويدخل الشخص حينها في غيبوبة، فلا يعود يرى ولا يسمع ولا يتكلّم ولا يدرك شيئاً ممّا حوله، حتى لو بقي قلبه حياً نابضاً، والحياة تدبّ في باقي أعضاء جسده...

فهل يعني ذلك أن عضلة القلب هي مجرّد مضخّة تستقبل الدم وتضخّه إلى كافة أنحاء الجسد؟

لا المرحوم الشيخ محمود منذ ثمانين عاماً كان يقرّ بذلك، ولا بعض المفكرين المعاصرين والمحدثين، الذين يستشهدون بالآيات القرآنية للدلالة على أن القلب ليس مجرّد مضخّة، إنما هو المركز الحقيقي للعقل، وهو الذي يقف خلف الدماغ، فيسيِّره ويعطيه الأوامر والتوجيهات!

تجدر الإشارة هنا، إلى أن العقل ليس كائناً أو موجوداً مادياً، إنما هو فعلٌ وعملٌ فكري ونفسي وروحي غير مادّي، ترتبط به الأعمال الفكرية غير المادية، التي تظهر في الأوامر والنواهي، والخيارات والمفاضلات، وأعمال الإرادة واتخاذ القرارات، والإبداعات الفنية والأدبية... وإن كانت هذه الأعمال الفكرية تُترجم إلى أفعال مادية وتتجسّد فيها.

إن في القرآن الكريم عدداً لا يستهان به من الآيات التي تشير في ظاهرها إلى أن القلب هو مركز العقل والتعقّل؛ من هذه الآيات:

1. (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور...) صورة الحج الآية 46.

2. (لهم قلوب لا يفقهون بها...) سورة الأعراف الآية 179.

3. (وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يتردّدون...) سورة التوبة الآية 45.

4. (...وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون...) سورة التوبة الآية 93.

5. (فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون...) سورة المنافقون الآية 3.


6. (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به، ولكن ما تعمّدت قلوبكم...) سورة الأحزاب الآية 5.

7. (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم...) سورة البقرة الآية 225.

كما توجد آيات أُخر تشير إلى أن القلب هو مركز العواطف والمشاعر والأحاسيس، منها:

1. (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك، فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة) سورة البقرة الآية 74.

2. (فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه) سورة آل عمران الآية 7.

3. (ربنا لا تزع قلوبنا بعد إذ هديتنا...) سورة آل عمران الآية 8.

4. (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) سورة آل عمران الآية 167.

5. (فطبع على قلوبهم فهم لا يشعرون) سورة الأعراف الآية 100.

وربطاً بهذه الآيات الكريمة، فإننا نعرّج على ما قاله وصرّح به بعض العلماء، نقلاً عن بعض أطباء القلب المحدثين، من أن «القلب ليس مضخّة للدم فقط كما يُعتقد، إنما يجري الحديث جدِّيًا عن دماغ (عقل) موجود في القلب، يتألّف من أربعين ألف /40000/ خليّة عصبيّة، وهو الذي يوجّه الدماغ الذي في الرأس لأداء مهامه... وأن القلب هو الوسيلة التي نعقل بها...»

كما يتحدّثون عن ذاكرة للقلب، وأن كل خليّة من خلاياه تشكّل مستودعاً للمعلومات والأحداث، وأن الخلل في عمل القلب يؤدي إلى فقدان السّمع ((ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون) سورة الأعراف الآية 100).

كما أنّ القلب مركز الإيمان، ومركز الخوف والرعب أو الطمأنينة (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) سورة الرعد الآية 28) وغير ذلك من الروابط بين العقل والقلب... وإن آخر ما استشهد به أصحاب هذا الرأي، هو أن الإنسان الذي زُرع له قلبٌ صِناعي، بعد أن تعطّل قلبه الطبيعي، لا يعود يخاف، أو يتأثّر بالأحداث. ولا يهتم بشيءٍ من أمور المستقبل!

في هذا الصدد، اجتمعنا إلى أحد الأصدقاء، الذي تعطّل قلبه الطبيعي وزُرع له قلبٌ صناعي، وسألناه عن حالِه، فكذّب هذه المقولة. لقد أفادنا صاحب القلب الصناعي، أنه لم يحصل له شيء من ذلك كله، وهو يعيش حياته بصورة طبيعية، دون أي تغيّر في مشاعره أو عواطفه أو أحاسيسه، أو في طريقة تفكيره، أو فـي إدراكه الأمور وفي طريقة معالجتها والاهتمام بنتائجها. وإن ذاكرته لـم تتأثّر، ولا تغيّرت اهتماماته بالمستقبل، ولا حصل له أي شيءٍ من المتغيّرات النفسية أو الاجتماعية،

اللهم إلاّ ما يحصل لأي مريض بأي مرض من أي نوع كان، من ردّات الفعل على معاناته من مرضه، بسيطاً كان ذلك المرض أم عضالاً.

وربّما توهّم أنصار الرأي القائل بوجود العقل في القلب، فاعتقدوا ذلك بسبب أهمية هذا العضو الرئيس في الجسم، فالقلب لا يموت بموت أي عضوٍ من أعضاء الجسد، وقد لا يموت لو ماتت الأعضاء الأخرى كلها؛ لكن جميع أعضاء الجسد تموت بموت القلب وبتوقّفه عن العمل. لذلك تُسند إلى القلب صفة العقل، وغيرها من الأمور العظيمة بسبب عظمة مكانته في الجسد.

صحيح أن عضلة القلب، كما يُثبت العلم، تعمل بنوع من الاستقلالية المحدودة، تنظّمها أنسجة جينية مولِّدة للنشاط الكهربائي المتحكّم بحركة القلب، لكن ذلك كله يخضع في النهاية لسيطرة الدماغ، الذي يرسل إشارات عصبيّة تتحكّم بسرعة حركة القلب، ربطاً بالمشاعر والأحاسيس المتولِّدة في الدماغ.

وإنّنا نعتقد جازمين، وحتى تاريخه، أن أعمال العقل والتعقّل مركزها الدماغ، والأجهزة العصبية التابعة له، لا القلب الذي أُنيطت به عملية ضخّ الدمّ، والتسيير الآلي الذاتي الذي هو في غاية الدقة والبرمجة الذاتية.

وإن ما نُسب إلى القلب وأُسند إليه، من العواطف والمشاعر والأحاسيس، واستطراداً من الحكمة والبصيرة والرويّة، هو إسنادٌ رمزي واصطلاحي، كأن يُقال مجازاً مثلاً: «قلبي يقول لي، وتمنّيته من كل قلبي، وأحببته أو كرهته أو سامحته من كل قلبي، وأوجع لي قلبي أو أدخل السرور إلى قلبي»، وغيرها وغيرها من العبارات الاصطلاحية المجازيّة التي يعود سبب اعتمادها وتداولها إلى أهمية هذا العضو الرئيس.

كذلك، فإنّ ما ورد في القرآن الكريم، من نسبة العلم والفقه والإدراك والأحاسيس والمشاعر وغيرها إلى القلب، نعتبره تنسيباً وإسناداً رمزياً واصطلاحياً، كمن يختصر الشخص كلّه بعضوٍ من أعضاء جسده، فيُقال مثلاً: «هذا الشخص هو رأس الإدارة، وذاك يد طائلة فيها، وذلك عين ساهرة عليها». وفي موضوعنا اختُصِر الشخص كله بقلبه، لأن قلبه هو العضو الأهمّ في جسده.

وربما كان منشأ الالتباس، في اعتبار العقل من أعمال القلب لا من أعمال الدماغ، ما خصّص به القرآن الكريم ذوي الألباب، أي أصحاب العقول، من الحكمة والمعرفة، لأن الألباب تعني العقول كما تعني القلوب في الوقت عينه.

قال تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتّقون) (سورة البقرة الآية 179)، وقال أيضاً: (وما يذَّكَّرُ إلاّ أولو الألباب) (سورة البقرة الآية 269 وآل عمران الآية 7)، و(إنّما يتذكّر أولو الألباب) (سورة الزّمر الآية 9)، وغيرها من الآيات التي ناهز عددها الست عشرة آية تتحدّث عن أولي الألباب، أي أصحاب العقول النيّرة كما ورد في التفاسير المختلفة، أو الموهوبين والمميّزين بالذكاء، كما ورد في النقل إلى اللغات الأجنبية.

فالألباب في اللغة، جمع لبّ، وهو العقل الخالص من الشوائب. واللب في اللغة أيضاً يعني القلب. هكذا في اللغات القديمة، كالسريانية والعبرانية، اللب معناه القلب المغشّى بالشحم، تشبيهاً بلبّ الثمرة، أي قلبها وجوفها المغلّف بشحمها وعصيرها.

إذن، بين العقل والقلب جامع مشترك في اللغة، هو اللبّ، الذي يعني العقل كما يعني القلب، من هنا تأتي الإشارة إلى القلوب بمعنى العقول في القرآن الكريم، رمزاً واصطلاحاً، كونها تعني الألباب. فالألباب تعني القلوب، وهي تعني العقول في الوقت عينه، حيث وُصف الإنسان العاقل والذكيّ والفطن باللبيب!

خلاصة القول: سنبقى، مستندين إلى الإجماع العلمي، نعتبر أن الدماغ هو المركز الفعلي والحقيقي للعقل، وأن ما نُسب إلى القلب مجازاً كان بمثابة الرمز والاصطلاح. نؤكد ذلك ونصرّ عليه، ما لم تقم العلوم الطبيّة وعلوم الحياة، بإثبات العكس، إثباتاً علمياً مبنياً على التجارب والاختبارات، ومعبّراً عنه بلغة الأرقام...

أستاذ جامعي

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم