الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

إشكاليّة اليسار الفلسطيني في مواجهة النيوليبراليّة الفلسطينيّة الجديدة

المصدر: النهار
د. باسم عثمان كاتب وباحث سياسي
إشكاليّة اليسار الفلسطيني في مواجهة النيوليبراليّة الفلسطينيّة الجديدة
إشكاليّة اليسار الفلسطيني في مواجهة النيوليبراليّة الفلسطينيّة الجديدة
A+ A-

في الواقع، لم ينشغل اليسار الفلسطيني في تحديد هويته الأيديولوجية والفكرية خارج إعلانه وتبنيه للفكر الماركسي واعتباره الحزب الشيوعي للدولة البلشفية مرجعيته الأولى والحصرية في شؤونه التنظيمية والفكرية، إلا بعد انهيار هذه المرجعية دولياً، لكن وقع هذا الانهيار كان بطيئاً على اليسار الفلسطيني بحكم غلبة المهام السياسية والوطنية على أجندته النضالية، وبحكم أن مؤسسات المنظمة تموضعت في الشتات حيث استندت تنظيمات اليسار كباقي التنظيمات السياسية الأخرى بالأساس على المخيمات والتجمعات الفلسطينية كحاضنة وقاعدة اجتماعية، وعلى التنظيمات العسكرية وشبه العسكرية خلال فترة وجودها في لبنان والأردن سابقاً. وبالتالي كان الكفاح المسلح الشكل الرئيس، وربما الوحيد، للنضال، خارج فلسطين، أما في الضفة الغربية والقطاع، أخذ أشكالاً متنوعة في مقاومة الاحتلال الاستيطاني، في ظل ميزان قوى عسكري واقتصادي مختل لصالح "إسرائيل"، وقدمت المرحلة الأولية من الانتفاضة الأولى نموذجاً خلاقاً في تحويل ميزان القوى لصالح الحركة الوطنية عبر تنظيم المقاومة والصمود عبر اللجان الشعبية والمختصة، وعبر توفير قيادة جماعية، وبحضور مميز لأحزاب اليسار الفلسطيني لتوجيه الانتفاضة، وتمييز نضال الفلسطينيين في أراضي 48 كنضال أقلية قومية تقبع تحت حكم نظام فصل وتمييز عنصريين. بتعبير آخر، لم يتدرب اليسار الفلسطيني على قيادة النضال الاجتماعي والمطلبي والديمقراطي، ولذا بقي انتماؤه الفكري إلى حد بعيد نظرياً لم تصقله المواجهات مع القضايا الاجتماعية والمعيشية، كما أن اعتماد اليسار الفلسطيني مرجعيته الفكرية والتنظيمية "من الخارج"، أفقده القدرة في مسؤولية توطين الفكر الماركسي ضمن خصوصيات الحالة الفلسطينية، حيث تشتت الشعب الفلسطيني الجغرافي والمجتمعي، وغياب أساس التشكيلة الاقتصادية -الاجتماعية الموحدة له، وغياب الدولة الوطنية المركزية، وتأثيرات هذا الغياب على التكوين الطبقي والثقافي للشعب الفلسطيني، مضافاً إليه التداخل العضوي للتجمعات الفلسطينية مع المجتمعات العربية والدول المضيفة.

لذلك، فإن الاعتقاد أن هناك قوى سياسية خارج نطاق "الأزمات"، هذا بحد ذاته تعبيرعن أزمة معرفية ومنهجية حقيقية على صعيد وعيها لذاتها ودورها،

ولهذا، سوف أنطلق في هذه القراءة والمراجعة النقدية لدور اليسار الفلسطيني ليس من باب تسجيل النقد لمجرد النقد، بل من أرضية الاحترام والتقدير العميق والوفاء للتجربة النضالية الطويلة له، ولمحطاته الوطنية والنضالية البارزة في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، في بلورة أسس البرنامج الكفاحي لمشروعها الوطني وتكريس مكتسبات وإنجازات الحراك الفلسطيني عموما، ولكن الدافع الاساس لهذه القراءة النقدية، هو أن تتجاوز قوى اليسار الفلسطيني معضلاتها الاشكالية لكي تلعب دورها التاريخي المنوط بها وبما يليق بتضحياتها وأهدافها النبيلة، وفقط انطلاقاً من الألم الذي يعتصر قلوبنا لما آلت له قضيتنا الوطنية وحالتنا الفلسطينية، بل وأكثر من ذلك، إنها تأتي أيضاً في سياق الوفاء حتى لتجربتي الشخصية، حيث انخرطنا في هذه التجربة النضالية المشرفة والتي أعتزَ بها منذ نعومة أظافرنا، وفي مختلف ميادينها وتجلياتها، حيث تكونت في مسيرتها هويتنا المعرفية والثقافية والفكرية.

كما يجدر التنويه إلى أن هذه القراءة ما هي إلا مجرد محاولة استفزازية للفكر السياسي والبرنامجي الاستنباطي لآليات العمل وروافعه.

إن المعضلات الاشكالية لليسار الفلسطيني تعتبر مسألة وطنية بامتياز،لأن فعاليته الوطنية والاجتماعية تؤثر على مجموع أداء الحركة الوطنية الفلسطينية، كما تؤشر إلى اختلال عميق في التوازن الذي يجب أن يحكم واقع تلك الحركة بحيث لا تصبح قضية الشعب الفلسطيني بكل أبعادها ودلالاتها تحت رحمة هيمنة قوى سياسية معينة، في الوقت الذي يعتبر- أي اليسار الفلسطيني - القوة الوطنية والاجتماعية التي شكلت في تاريخ النضال الوطني المعاصر، الرافعة الوطنية والاجتماعية والثقافية المحورية لإنجازاته ومكتسباته الوطنية الرئيسية، كما أنها قدّمت وما زالت تضحيات هائلة في مسيرة كفاحه الوطنية.

في هذا السياق، فإن المراجعة النقدية لدور اليسار الفلسطيني وقواه السياسية ليس ترفاً فكرياً وحديثاً سفسطائياً يتناول أطراف إسقاطاته وحذلقته الكلامية في أحد مقاهي أو نوادي الترف الفكري، بل هو ضرورة وطنية بامتياز، تمليها التحديات والصعوبات والمخاطر التي تواجه المشروع الوطني الفلسطيني برمته، لأن الدور السياسي والاجتماعي لليسار الفلسطيني تمليه وتفرضه مكونات البنى والقوى الاجتماعية الطبقية للشعب الفلسطيني، ولأن هذا التنوع الاجتماعي الفلسطيني، يستدعي تعبيرات سياسية وفكرية تحمل مفرزات هذا التنوع وتجلياته الفكرية والموضوعية.

يشهد الواقع الفلسطيني أزمة عميقة على مختلف الأصعدة؛ يمكن وصفها بالانحباس الاستراتيجي لحراكه الوطني وغياب استراتيجيته الكفاحية الخاصة وعدم توفر بدائله الوطنية، دون أن يعني ذلك غياب هباته الوطنية على شكل انفجارات انتفاضية حيناً، ومبادرات مقاومة شعبية ومجتمعية مدنية حيناً آخر، تأتي في سياق الحالة الطبيعية التي تنتجها معادلة المواجهة بين الشعب الفلسطيني وقمع الاحتلال الإسرائيلي، وتتجلى المعضلة الاستراتيجية لحركة التحرر الوطني الفلسطيني عموماً وقوى اليسار الفلسطيني على وجه الخصوص، في عجزها عن توفير شروط التحرر والاستقلال لإنهاء الاحتلال الكولونيالي واستعادة حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية، ليس هذا فحسب، بل صيرورة التناقضات الداخلية لامتيازات السلطة تحت الاحتلال نحو مشهد غير مسبوق من الانقسام الداخلي والوهن في الأداء السياسي والبرنامجي التنموي، هذا من جانب، ووهن فعالية قوى اليسار الفلسطيني وتشرذمها من جانب آخر، فيما يواصل الاحتلال الإسرائيلي سياساته ومشاريعه الاستيطانية والتهويدية والضمّ الزاحف بمزيد من الاجراءات وفرض الوقائع على الارض التي تجعل منه أمراً واقعاً، بعد إخفاق استراتيجية التفاوض وفشل ما يسمى "عملية السلام" في إطار أوسلو واستحقاقاته المدمرة على المشروع الوطني الفلسطيني وطنياً واقتصادياً واجتماعياً، فالسياسات الاقتصادية التي تنتهجها السلطة والحكومة الفلسطينية وما تنطوي عليه من تهميش مقومات الاقتصاد الوطني الفلسطيني المستقل، والاعتماد على أوسلو وملحقاته الاقتصادية والتمويل الخارجي بكل اشتراطاته المأسوية من التبعية والخضوع، والتي لا يقف تأثيرها على الجانب الاقتصادي المعيشي والاجتماعي فقط، بل يمتد ليتحول إلى أداة ابتزاز سياسي للحالة الفلسطينية ومشروعها الوطني .

هذا الواقع بأبعاده المختلفة، يشير إلى أزمة فكر وعمل فلسطينية عامة، ويضع قوى اليسار الفلسطيني أمام استحقاقات فكرية وبرنامجية أكثرعمقاً، بحيث توضع علامة سؤال جدية على مشروع اليسار الفلسطيني السياسي والاجتماعي والاقتصادي والوطني بشكل عام، وقدرة ذلك المشروع على المواءمة بين قدرات الشعب الفلسطيني الكفاحية ومتطلباته الحياتية والاجتماعية والوطنية، بما يوفر التوازن والتناغم بين مهام التحرر الوطني وإنهاء الاحتلال وتحقيق طموحات الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال، ومهام البناء الاجتماعي وتلبية حقوق واحتياجات المجتمع الفلسطيني الاقتصادية والاجتماعية .

موضوعياً، هناك العديد من المحفزات لكي يضطلع اليسار الفلسطيني بدور فاعل ومؤثر في الحراك الفلسطيني: سياسات الاحتلال الإسرائيلي القمعية والعنصرية والاستيطانية والتهويدية ضد الشعب الفلسطيني والتي تستهدف تصفية حقوقه الوطنية، وحالة الانقسام الفلسطيني وما يرافقها من عملية استقطاب سياسيي واجتماعي بين "طرفي الانقسام"، وما ترتب عليه من تأزيم الحالة الفلسطينية سياسياً واجتماعياً وجغرافياً، وما رافقه من تعطيل مؤسسات الشعب الفلسطيني الوطنية والتمثيلية والجماهيرية والشعبية، والوضع الاقتصادي المتفاقم الذي يعاني منه المجتمع الفلسطيني بكل شرائحه الاجتماعية وخاصة قطاع الشباب، وما يترتب على ذلك من نتائج اجتماعية كارثية، أضف إلى ذلك، ما يجري في المنطقة وعلى امتداد العالم، يشير إلى نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، منظومة عالمية وإقليمية يتشكلان من جديد، ويمكن جدًا أن يكون للفلسطينيين حضورهم القوي والمميز إذا استطاعوا توفير مستلزمات الحضور المطلوبة.

لكن وبالرغم من هذه الحقائق الموضوعية إلا أن الواقع يشير إلى إشكالية القراءة لليسار الفلسطيني للظواهر الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الفلسطيني، رغم كل المحاولات التي تستهدف طرح بعض التصورات والأفكار لفهم ومواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية البنيوية، والتي سرعان ما تسقط في الخطاب المجرد والعموميات، وكأن المشكلة يمكن تجاوزها بالخطاب، ومثالنا على ذلك، عدم التمييز بين دور ومهمة اللجان الاجتماعية في تقديمها للخدمات الاجتماعية للمجتمع الفلسطيني رغم أهميتها القصوى، ووظيفة هذه اللجان الاجتماعية ومهمتها الأساسية في النضال الاجتماعي – الطبقي داخل المجتمع الفلسطيني.

هذه الواقع يعكس إشكاليات فكرية - فلسفية واجتماعية على مستوى تعامل اليسار الفلسطيني مع المهام الوطنية والاجتماعية، لأن تشكل الظواهر، بما في ذلك نشوء الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تأتي في سياقاتها الموضوعية، وبالتالي فإن مواجهتها تستدعي بالضرورة العمل من أجل تأسيس سياقات وآليات عمل وبنى بديلة.

لهذا نجد من الفصائل الفلسطينية والتي تدّعي اليسارية منها لحقت بركب السلطة وامتيازاتها الوظيفية، من دون أنْ تمتلك حتى مجرّدَ القدرة على التمايز اللفظيّ عن نهج السلطة وفكرها، فأضحت ديكوراً لا أكثر ولا أقل، لمركز القرار الفلسطيني ومطبخه السياسي، ودعموا تراجعَهم الموقعي والفكري بسلسلةٍ من التبريرات الإيديولوجيّة لتكون بمثابة "مراجعة فكريّة ضروريّة"، وحماية "المشروع الوطني" والتأقلم مع معطيات "المتغيرات الدولية والإقليمية"؟! إلا إذا كان ذلك تبريراً لإشكاليات بنيوية فكرية وانهياراً في التفكير السياسي لهذه القوى التي تدّعي اليسارية، وبالاتفاق مع رأي (لينين): فإنّ المثقفين "هم أكثرُ الناس قدرةً على الخيانة لأنّهم أكثرُهم قدرةً على تبريرها"، لأنهم يهرولون نحو الامتيازات والألقاب على حساب مواقفهم المبدئيّة.

واقع الحال يكشف أن التصدي لتلك الأزمات (البنيوية والبرنامجية) يجري في الغالب بصورة ارتجالية وأحياناً "عاطفية"، وفق استراتيجية ردة الفعل على مفاهيم وسياسات وحراك الآخر، وليس وفق ما يتطلبه بناء الفعل وروافعه استراتيجياً، وكأن التناقضات السياسية والاجتماعية هي مجرد سوء فهم وليست تعبيراً عن تناقضات لواجهات سياسية تمثل مصالح فئات وشرائح اجتماعية ولا يمكن التنازل عنها.

لذلك، يبدو أن أداء اليسار الفلسطيني في مرحلته الراهنة لا يتناسب مع رسالته التاريخية وتضحياته ودوره الوطني الجذري ومصداقيته الثورية في تعامله مع الحالة الفلسطينية السائدة، هذه المصداقية لا تتحقق باستراتيجية النقد والمعارضة الخطابية فقط، بل تتحقق في سعيها إلى تأسيس البدائل الوطنية والاجتماعية وآليات عملها، أي أن تتصدر قيادة المرحلة سياسياً واجتماعياً، فالاختلاف مع شريحة السلطة الفلسطينية ليس اختلافاً في"الطباع"، بل اختلاف في الطبيعة السياسية العضوية .

واليساري لا يعني السياسي الذي يؤمن بالمزايا السحرية لأفكاره، بل في التزامه وتبنيه لمصالح الجماهير الشعبية في خلاصها الوطني والاجتماعي،

وفق آليات عمل مرحلية واستراتيجية، متقدماً الصفوف برصيده الجماهيري الملتفّ حوله، وعليه أن يدفع "الثمن" المطلوب.

إن الرهان على التغيير في بنية الشريحة السائدة في السلطة الفلسطينية وسياساتها هو رهان نظري لا يمتّ بصلة لأية رؤية تحليلية علمية لصراع الطبقات الاجتماعية ومصالحها، ذلك يستدعي مغادرة اليسار الفلسطيني حالة "حرب المواقع الثابتة" إلى "حرب الحركة والبناء"، وهذا لن يتحقق إلا إذا امتلك اليسار الفلسطيني شروط "التجاوز الجدلي" للواقع القائم.

إن التجديد والتغيير في الحالة الفلسطينية أبعد ما يكون عن "المركزية الفلسطينية"، لتحاشي سلطة الجغرافيا وسلطة الاحتواء وسلطة الامتيازات الطبقية، لا بد من السعي وراء التجديد الفلسطيني من "اللامركزية" في داخل الأطر الجماهيرية والنقابية والمؤسسات المدنية والاجتماعية، لأن سلطة المركز الفلسطيني والتشتت الجغرافي سيحولان دون ذلك.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم