الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

آثار الهزيمة والقمع على الناشطين

منى فياض
آثار الهزيمة والقمع على الناشطين
آثار الهزيمة والقمع على الناشطين
A+ A-

يصف قدري حفني، عالم النفس المصري الراحل، أثر هزيمة حزيران 67 عليه: "أذكر كيف تلاشى ذلك التفاؤل الساذج مع بداية نذر الهزيمة، وكيف تحول الخجل إلى إحساس ثقيل بالتقصير في الفهم وفي الفعل على حد سواء. وبدأ تساؤل مؤلم يلح عليّ، كما يلح على غالبية أبناء جيلي: "لماذا لم نفهم؟ لماذا لم نتوقع ما حدث؟ وقادني سعيي للبحث عن إجابة لتلك الأسئلة إلى استثمار ما أعرفه كمتخصص في علم النفس".

ثم يصف كيف أن الهزيمة أسقطت الخطوط الحمر التي جعلت الخيار العربي منذ نكبة 1948 "أن نغلق الأبواب على أنفسنا حيال كل ما له علاقة بإسرائيل". ووصف مبادرة محمد حسنين هيكل بعد شهور في إنشاء مركز الدراسات الفلسطينية والإسرائيلية ببارقة الأمل.

بالطبع اختلفت الاستجابة للهزيمة باختلاف الأشخاص وأوضاعهم. ينطبق هذا على الصعيد الجسدي والنفسي للأفراد، وعلى البلدان والجماعات. فعندما حصل الانهيار الاقتصادي في العام 1929 انتحر البعض بينما استغل آخرون الفرصة للربح أو للتأقلم. هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية حولتها إلى قوة اقتصادية كبرى. أما البلدان العربية فلا تغادر الهزائم.

أستعيد ذلك بمناسبة الضجة التي أثارها الظهور الإعلامي المفاجئ لوائل غنيم، بحالة وُصفت بأنها صادمة؛ إذ بدا مشوشا ومشتت الذهن. لا شك أن الصفحة التي أنشأها بعد مقتل خالد سعيد في 2010 لعبت دورا كبيرا، كوسيلة رقمية، في تجميع الشباب المصري للقيام بتحركاتهم. لكن حدوث هذا الأمر كان مستحيلا لو لم تكن الظروف الموضوعية عند الشرائح المدينية من الشعب المصري ناضجة للقيام بالثورة.

تحول غنيم إلى أيقونة الثورة المصرية واختارته مجلة "تايم" على قائمة الشخصيات المئة الأكثر تأثيرا في العالم لعام 2011. لذا من البديهي أن تثير الحالة التي ظهر فيها عاصفة من التساؤلات

ومفتاح الإجابة قد يكون في الأعوام الثمانية التي مرت على الثورة المصرية، وحكمت عليها بالهزيمة. وأي هزيمة سياسية تترك أثرا كبيرا على من يتعرض لها حتى في الأحوال العادية.

يصف تقرير بحثي كندي الأثر النفسي للهزيمة السياسية على السياسي العادي. مع الإشارة إلى أن النشاط السياسي يؤثر بحد ذاته على الحياة الخاصة للقائمين به، وقد يؤدي أحيانا إلى التضحية بالحياة الأسرية وانحلال الزواج، بسبب ساعات الغياب الطويلة التي يتطلبها العمل.

أما الهزيمة فتصيب المهزومين بهشاشة كبيرة وقد يعتبرونها نوعا من الموت: فيشعر المهزوم بالخسارة والغضب والحزن، قبل أن يتقبلها لاحقا. وما يضاعف الإحساس بالهزيمة الطابع التملكي والمستحوذ والمثير للسياسة.

فمن منتجاتها الثقافية الجانبية، اعتقاد السياسي بسهولة أنه يغير اتجاه الأحداث إلى حيثما يجب. فالفرد يوظف فيها جزءا كبيرا من حياته وطاقاته. تصبح جزءا من كيانه، يتنفسها ويعيش عبرها. لذا هناك شعور أكيد بالخيبة. ربما يدخل بعدها في قوقعته، بسبب الشعور بالعجز والخيبة.

فما بالك بمهزومي الثورات والتحركات في العالم العربي، وفي مصر خصوصا! فليست الهزيمة وحدها مشكلتهم، بل القمع والاضطهاد، فهم مطاردون أو سجناء أو خاضعون لأحكام المراقبة المقيدة أو هاربون ومنفيون خارج البلاد أو "مختفون قسرا"، الكلمة الحقوقية المخَفّفة للاعتقال التعسفي.

علق أحد وجوه ثورة يناير لموقع إلكتروني: "المشكلات في عهد مبارك كانت كبيرة لكنها الآن تفاقمت، ما يجعلنا نتمنى أن نعود للوراء". تحولت أحلام هؤلاء الشباب إلى سراب ووهم والمستقبل إلى ظلام.

أحمد دومة، أحد وجوه الثورة الذي يقضي عقوبة بالحبس 31 عاما في عدة قضايا، نقل موقع "رصيف 22" عن زوجته نورهان حفظي كيف انقلبت أحلامهما، وبعد أن كانا يحلمان بواقع مختلف للبلد بأكمله، صار الحلم الآن السلامة والأمن الشخصي وأن تستجيب الداخلية لطلب علاج دومة من آلامه الصحية، فهو يعاني من آلام تأكل غضروف الركبة، ويحتاج لأشعة رنين على الفقرات القطنية حتى لا تسوء حالته.

إضافة إلى القمع والتهميش السياسي، يتعرضون للشماتة ويتهمون بالعمالة وتنفيذ أجندات أجنبية. فعند متابعة بعض التعليقات الصحفية بمناسبة ظهور غنيم، نجد عناوين من نوع: "سر توقيت عودة تجار يناير"، "فضيحة الشتائم بين الناشط والمقاول"، "خلافات 2011 تنتقل إلى مراكز النظامين السابقين بالخارج". وتصبح الثورة في صحف خليجية "سنوات هائجة" مدعومة وممولة من بعض الغربيين، تم التخلص منها: "فوضى يناير ونظام يونيو".

وبذريعة "حفظ الاستقرار ومكافحة الإرهاب وضبط الهجرة"، تحصل الأنظمة على دعم الديمقراطيات الغربية لتقوية الأجهزة الأمنية والجيش. وتغض النظر عن حماية حقوق الإنسان. ذلك أن الانظمة طورت أيضا خطابها وطريقة استخدامها للنظام القضائي، وامتلكت مناعة وحصانة ضد معارضيها في ظل إعلام ممسوك تماما. ما سمح بالعودة إلى الوراء إثر التحسن الذي طرأ بعد الثورة.

فالتعليلات وتطورها مع الزمن تلعب دورا مهما في التأثير على الجمهور واتجاهاته، بمعنى كيف ومتى ولماذا يختار الساسة عددا متنوعا من التعليلات المتناقضة لتبرير أفعالهم، وكيف يستجيب المواطنون لهذه الآليات التعليلية الممتدة. ومنها الإنكار والتنازلات التي تتعلق بمصالح خاصة، مع الكثير من الاعتذارات عند انكشاف خطأ شخصي أو مؤسسي أو قومي في الخطاب السياسي المعاصر.

إضافة إلى كيفية تقديم الذات واتخاذ المواقف والخطوات لخلق صلة بالجمهور. فيستجيب المواطنون للخداع والمناورة، وهي إحدى استراتيجيات السلطات الحاكمة، ويتشكل الرأي العام متأثرا بالانطباعات التي كونها المواطنون.

وتستغل ردود أفعالهم العاطفية لفرض نوع من حالة هذيانية تخلق شروطا مستدامة للإثارة التي تحط من قدر الأفراد المعنيين.

أصبح شباب يناير كبش الفداء و"المتسببين" بالفوضى. السلطة الحاكمة ليست مسؤولة عن الصعوبات الاقتصادية ومشاكل الحياة الأخرى. فاللوم ينصب الآن في مصر على ثورة 25 يناير والقائمين بها بالطبع.

يبحث بعض المهزومين عن تفسيرات تبعد المسؤولية عن الأنا المجروحة لتخفيف الرضوض النفسية، ورمي المسؤولية على الآخرين وعلى الظروف.

كما قد نجد أن غيرهم، كمحمود بدر، الصحفي الذي تحول نجما تلفزيونيا، وطارق الخولي الذي أصبح عضوا في البرلمان المصري، قد اختارا اتجاها مغايرا.

وهناك من يلجأ إلى الفن. تخيل أحد الصحفيين في العام 1942 حديثا افتراضيا بين بيكاسو وأحد السفراء الألمان الأقوياء في باريس، الذي يقصد الفنان في شقته ويتوجه إليه بـ "cher maître" مقدما له الفحم والقهوة والسكر والشوكولا، مجاملات يرفضها بيكاسو بجفاف، متظاهرا بعدم التعرف على زائره. يطال الحديث لوحة بيكاسو الحديثة "غيرنيكا"، يظهر الزائر انبهاره بها ويسأله كيف استطاع إنجازها؟ فتلتقي نظرة بيكاسو، بعينيه عميقتي السواد، بعيني الزائر الزرق ويجيب: أنتم من قام بهذا، وليس أنا!

إذن هذا ما أنجزته الديمقراطيات "المدافعة عن حقوق الإنسان" بتواطئها مع الأنظمة العربية... أما القمع السيبراني القادم برعاية صينية فأعظم.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم